ينطلق الرئيس التونسي قيس سعيد في زياراته الميدانية من رؤية الساعي إلى إصلاح ما أفسدته سنوات حكم الإخوان ومن تحالفوا معهم خلال السنوات العشر التي تلت الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وإلى توجيه رسائل مضمونة الوصول إلى المسؤولين عن مختلف الإدارات العامة وقطاعات العمل والإنتاج، بأن لا أحد فوق المساءلة، وأنه مستعد للنزول بنفسه إلى ميدان المواجهة انطلاقا من صلاحياته الدستورية الكاملة.
كما يريد الرئيس سعيد أن يقول لمواطنيه إنه مطّلع على كل ما يدور في البلاد، وإنه حريص على إصلاح ما يمكن إصلاحه، في كافة المناطق، وفي مختلف المجالات والميادين سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، وإن البلاد في هذه الظروف تحتاج إلى إعادة بناء وتأسيس بالاعتماد على رؤية إصلاحية في إطار ما يعتبره “معركة تحرير” جديدة.
يعتمد الرئيس سعيد في ذلك على الملفات التي تصله إلى قصر الرئاسة بطرق شتى، ويتم فحصها ودراستها وتمحيص مضامينها في تقارير يتم إعدادها من قبل أكثر من جهة متخصصة، وبذلك يضمن أنه يسير إلى هدفه محمّلا بالقرائن والأدلة التي تتيح له التصريح مباشرة بما يراه معبّرا عن موقفه ليس فقط كرئيس للدولة وكمسؤول أول عن السلطة التنفيذية، وإنما كذلك كمدافع عن الحق العام في سياق مسؤوليته عن تحديد السياسات الجنائية. وهو ما يتبين بالخصوص من خلال مسارعة الجهاز القضائي للتحقيق في الملفات العاجلة، ومنها تلك المتعلقة بالبنك الفلاحي والشركة الوطنية لعجين الحلفاء والورق.
ومن الطبيعي أن يكشف الرئيس عن الكثير من الوقائع والتفاصيل أمام كاميرات التلفزيون، وأن يخاطب مواطنيه انطلاقا من حرصه على الشفافية في الكشف عن مكامن الفساد والعبث داخل مفاصل الدولة وفي مؤسساتها الكبرى، وعن التحالفات التي طالما كانت قائمة بين القوى النافذة داخل السلطة التنفيذية وبين شبكات الفساد التي لم تكتف بنخر الاقتصاد الوطني ونهب المال العام، وإنما عملت كذلك على إرباك مشاريع الدولة وسياساتها التنموية وإلى ضرب جسور الثقة بين السلطة والمواطن.
خلال الأشهر الماضية، أدى الرئيس سعيد زيارات غير معلنة إلى محافظات (ولايات) صفاقس وقفصة وباجة ونابل والقيروان وسليانة والقصرين وغيرها، وإلى مناطق داخل إقليم تونس الكبرى، وكان يهدف في كل زيارة إلى تلمسّ الواقع دون وساطات ودون فسح المجال أمام المسؤولين الجهويين والمحليين لتهيئة الظروف بما قد يغيّر ملامح المشهد ويزيف تفاصيل الواقع، فما يبحث عنه ويرغب فيه هو أن يرى الصورة على حقيقتها وكما كان يراها في زياراته الكثيرة والمتعددة للمناطق الداخلية قبل العام 2019. وهو يستفيد في ذلك من علاقات الودية مع الأغلبية الساحقة من أبناء شعبه، وخاصة مع الطبقات الشعبية التي تثق بما يقول، وترى فيه زعيما جديرا بثقتها رغم كل المصاعب التي تمر بها البلاد.
كانت زيارة الرئيس سعيد إلى المسبح البلدي بساحة باستور يوم 15 فبراير الجاري، كافية لتفسح المجال أمام البدء في أشغال إصلاح المسبح من قبل الهندسة العسكرية بعد 40 عاما من إغلاقه، ولتقطع الطريق أمام اللوبيات التي لم تتوقف عن أطماعها بوضع اليد على حديقة البلفيدير أو رئة العاصمة كما توصف، والتي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1891 وأعيد تأسيسها في العام 1963 وفتحت أبوابها للزيارة عام 1966، وتمتد على حوالي 12 هكتارا كان بعض الفاسدين النافذين يرغبون في بسط نفوذهم عليها لاستغلالها في مشاريعهم العقارية والتجارية نظرا لأهمية الموقع وجاذبيته.
أشار الرئيس سعيّد إلى وجود مشاريع أخرى مماثلة، على غرار دار الثقافة ابن خلدون ودار الثقافة ابن رشيق، في المجهود المتعلق بإعادة تهيئة مجموعة من المؤسسات الوطنية. وقدم مختصرا مفيدا لرؤيته “نحن نخوض الحرب في كل الميادين ومن غير الممكن أن نترك البلاد في حالة خراب في كل المجالات”، معتبرا أنه “من غير المقبول تشويه كل شيء باسم التجديد. في كل مكان تمّ تخريب البلاد والأمر لا يقتصر على العشرية الأخيرة فاللوبيات التي كانت موجودة لا تزال قائمة إلى حد اليوم”.
الأمر ذاته ينطبق على “دار الحوت” أو متحف علم المحيطات في صلامبو بقرطاج، حيث قال الرئيس سعيد إن الوضع المتردي في المؤسسة غير مقبول، مشيرا إلى وجود ملفات فساد، وأضاف أن اللوبيات تهدف في السنوات الأخيرة إلى ضرب المؤسسة وإخراجها من مكانها “لأن الميناء البونيقي يسيء لحيتان البر الكبيرة”، كما شدد على أنه لن يتم التفريط فيها وعلى ضرورة استعادة بريقها. ينطلق في ذلك من عراقة المؤسسة ودورها العلمي والثقافي، وهي التي تأسست في العام 1924 كمتحف تابع لمتحف علم المحيطات بموناكو، ثم أصبح مستقلا بالكامل عند استقلال تونس في 1956، وغير اسمه إلى المعهد الوطني العلمي والتقني لعلم المحيطات والصيد البحري. وتم نقله في العام 1992 من التبعية إلى وزارة الفلاحة للتبعية إلى وزارة التعليم العالي، وتغيير اسمه إلى المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيات البحر.
كثيرة هي المؤسسات التونسية العريقة والمهمة والتي تحتاج إلى الإنقاذ والإصلاح بعد أن تعرضت إلى الإهمال والتهميش أو نخرها الفساد وحاول الفاسدون تخريبها من الداخل ليتمكنوا من السيطرة عليها والاستفادة من الموقع الذي توجد عليه أو من الثروات والمقدرات الأثرية والثقافية والمالية التي تزخر بها، وقد أدرك الرئيس سعيد ذلك، وهو يعمل على تحقيق رؤيته في إعادة تشكيل ملامح البلاد من خارج دائرة الخراب الممنهج الذي تعرضت له، ليس فقط خلال السنوات العشر الماضية، وإنما من قبل ذلك بكثير.
يحاول قيس سعيد أن يحافظ على تلك الصورة التي عرفه بها أبناء شعبه قبل أن يترشح للرئاسيات وبعد أن دخل السباق في شوطيه الأول والثاني، وهي صورة الرجل الصادق والصريح والمتواضع ونظيف اليد والحريص على المال العام، والذي كان من ينتقدونه اليوم أول مسانديه وداعميه بالأمس قبل أن تعصف بهم رياح الخلافات في سياقات الصراع على السلطة والامتيازات والمصالح.
يلاحظ المحسوبون على المعارضة والمراقبون الأجانب أن الرئيس التونسي يستطيع أن يمشي في الشوارع ويتجول في الأسواق ويطرق أبواب المؤسسات دون أن يصادفه من يواجهه بكلمة لوم أو شعار مناهض لسياساته، وهذا في حد ذاته أمر مثير للاهتمام. هناك من يفسره بأن التونسيين كانوا دائما في حاجة إلى من يخاطبهم بصدق ومن يتبنى آمالهم وآلامهم ويتفاعل مع طموحاتهم، حتى ولو كان ذلك مع تأجيل التنفيذ على أرض الواقع. لذلك، بات من شبه المؤكد أن قيس سعيد سيكتسح الرئاسيات القادمة وبقوة، حتى وإن لم تتغير حياة مواطنيه نحو الأفضل خلال سنوات حكمه.