ريغان.. والفوضى الأميركية
بينما كنا نسير في الموكب الذي حمل نعش والدي. هذه المرة شعرت بالارتياح لوجودهم. كانت بيني وبين أميركا علاقة صعبة مشوبة بالتوتر
في الليلة التي سبقت وفاة والدي، رونالد ريغان، أصغيت إلى أنفاسه… كانت خافتة ورقيقة. لا شيء يضاهي ذاك الرجل الرياضي الذي يركب الخيل، ويبني السياج في المزرعة، ويبني حواجز قفز الخيول من أعمدة الهاتف القديمة، ويقطع الشجيرات على طول مسارات ركوب الخيل. أو عن الرجل الذي رفع صوته إلى السماء الملبدة بالغيوم وقال: «غورباتشوف، اهدم هذا الجدار».
قبل فترة طويلة من ترشح والدي لمنصب الرئاسة، جلست السياسة بيننا على مائدة العشاء. كانت المحادثات متوقعة: كانت الحكومة الكبيرة هي المشكلة، كانت هي الشيطان، الشيء الذي كان على أميركا أن تكون حذرة منه. كرهت تلك المحادثات. أردت أن أتحدث عن الفتى الذي تنمر عليّ في حافلة المدرسة، وليس عن تجاوزات الحكومة.
بمرور الوقت، صرت أشعر بالاستياء من هذا البلد بسبب مطالبته بالكثير من والدي. ومع ذلك، فإنني أكثر ما أفتقده اليوم هو حبه لأميركا. كانت عيناه تشعان بالدموع عندما كان يتم عزف أغنية «أميركا الجميلة»، ولكن ذلك لم يكن مجرد مشاعر. كان يعرف مدى هشاشة الديمقراطية، ومدى سهولة تقويضها. لقد اعتاد أن يخبرني كيف تنزلق ألمانيا صوب الديكتاتورية، وهي أكبر أشكال الحكم على الإطلاق.
أتمنى بعمق أن أسأله الآن عن الحافة الزلقة التي نترنح عليها في الوقت الراهن، وكيف يمكن لأميركا أن تخرج من مستنقع الغضب وانفجارات الكراهية. كيف يمكننا كسر دائرة العنف سواء الفعلي أو اللفظي؟ كيف نتجاوز الانقسامات الموحلة التي تفصل بيننا، ونتجاوز الضغائن الحزبية التي تدفع بالمسؤولين المنتخبين إلى مضايقة الرئيس في خطابه عن حالة الاتحاد؟
عندما أصيب والدي بالرصاص، جاء تيب أونيل – الذي كان رئيس مجلس النواب آنذاك، وكان دائماً واحداً من أكثر خصومه السياسيين إخلاصاً – إلى غرفته في المستشفى وجلس للصلاة معه، واليوم تبدو مثل هذه الإيماءة مستحيلة.
إذن، ماذا سيقول والدي عن تدهور الكياسة والمستقبل المشؤوم لديمقراطيتنا اليوم؟ لا أعتقد أنه سيخاطب المرشح الأوفر حظاً في حزبه على الإطلاق. أعتقد أنه سوف يُركز على الأشخاص الذين يهتفون في المسيرات الانتخابية لذلك المرشح. كان ليوضح لهم أن الديكتاتوريات لا يصنعها شخص واحد، بل يصنعها كل الناس الذين يقفون في الصف ويقولون نعم.
في عام 1967، بعد أن أدى والدي اليمين الدستورية بصفته حاكماً لولاية كاليفورنيا، ذهبنا إلى قصر الحاكم، وهو منزل قديم متهالك في شارع مزدحم. كنت في الـ15 من عمري، غير سعيدة لكوني ابنة الحاكم؛ إذ شعرت بالعجز والخوف. لذا تسللت بعيداً عن الجميع وصعدت طابقين من السلالم إلى قبة المبنى، حيث نظرت من إحدى النوافذ إلى حشد من الناس الذين تجمعوا على الرصيف. بدوا صغاراً للغاية من تلك المسافة. وفجأة لاحظني أحدهم هناك، وبدأ الغرباء يلوحون لي. أتذكر أنني تراجعت بسرعة، وجلست على الأرض المغبرة وانخرطت في بكاء مرير.
بعد مرور 37 عاماً، شاهدت حشداً آخر من الغرباء يحتشدون على طول الأرصفة، ويتجمعون على جسور الطرق السريعة، بينما كنا نسير في الموكب الذي حمل نعش والدي. هذه المرة شعرت بالارتياح لوجودهم. كانت بيني وبين أميركا علاقة صعبة مشوبة بالتوتر، ولكن الطريقة التي توقفت بها البلاد خلال تلك الأيام القليلة كانت بمثابة البلسم البارد على الأجزاء الأكثر ألماً في حزني الشديد على والدي.