ريشي سوناك: عبقري أم مقامر؟
رغم أن العديد من المراقبين يعتقدون أن تقديم موعد الانتخابات العامة يمثل لريشي سوناك مقامرة محفوفة بالمخاطر، يأمل هذا الأخير، ولو باقتناص فرصة ضئيلة، لقلب الواقع وتحويل خطوته الى مناورة استراتيجية عبقرية. وفي مواجهة العديد من المشاكل الموروثة وشعبيته التي لا تزال منخفضة
سيمثل يوم الخميس 30 أيار(مايو) 2024 تاريخًا حاسمًا في التاريخ السياسي للمملكة المتحدة، اذ شهد الحل غير المتوقع للبرلمان البريطاني. هذه الخطوة أتت عقب الدعوة المفاجئة لرئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الى إجراء انتخابات عامة مبكرة في 4 تموز(يوليو) المقبل، وذلك في ظل مناخ من الاضطرابات والتحديات الاقتصادية. وتعكس هذه المبادرة الجريئة رغبة في تحدي الرأي العام والاستطلاعات التي ترجح فوز المعارضة العمالية بقيادة كير ستارمر بفارق 20 نقطة مئوية.
لقد سعى سوناك من خلال تقديم موعد الانتخابات بضعة أشهرعن الموعد المقرر في كانون الثاني (يناير) المقبل إلى إحداث مفاجأة. وقد أثارت هذه الخطوة غير المتوقعة صدمة في الأوساط الحكومية والبرلمانية، حيث كان يُعتقد على نطاق واسع أن رئيس الوزراء سيطلب من الملك تشارلز الثالث حل البرلمان بين تشرين الاول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) القادمين. فما الذي تخبئه هذه الخطوة الجريئة؟ هل هي مقامرة محفوفة بالمخاطر أم مناورة استراتيجية عبقرية؟
بداية، دعونا نذكّر أن الحزب المحافظ الذي وصل إلى السلطة عام 2010 تحت قيادة ديفيد كاميرون شهد مجدًا لا مثيل له وكذلك هبوطًا حادًا في تأييد الرأي العام. المجد الذي حققه ديفيد كاميرون في 2010، بعد 13 عامًا من حكم العمال تحت قيادات توني بلير وغوردون براون، تلاه مجد رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، الذي فاز باستفتاء “بريكسيت” لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016. ثم حصل في 2019 على أوسع أغلبية محافظة في البرلمان منذ عهد رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر.
ومع ذلك، توالت السقطات الحادة مع الفوضى السياسية وعدم الاستقرار الذي تميز بتعيين تيريزا ماي رئيسة للوزراء في 2016، ولم تتمكن هذه الاخيرة من الحصول إلا على أغلبية نسبية في وستمنستر. وأتت تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والفضائح المتكررة لبوريس جونسون، وأبرزها فضيحة “بارتي غيت”، وحكم ليز تراس الكارثي، التي لم تدم في السلطة إلا لمدة 44 يومًا لتفاقم أزمة حزب المحافظين. وقد زادت الأزمات العالمية الاخيرة من تعقيدات الحكم: فالمشاكل الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا زادت من الصعوبات. وهكذا، فإن الناخبين، كما هو الحال في معظم الديموقراطيات، يركزون أكثر على الفشل ويميلون إلى لوم الحكومة الحالية على كل المشكلات التي يعاني منها البلد، سواء كانت مسؤولة عنها أم لا. هنا يجد سوناك نفسه في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، رغم أن سجله منذ توليه السلطة ليس سيئًا كما يتراءى للبعض. بل على العكس من ذلك!
تجدرالإشارة الى أن قرار تقديم الانتخابات العامة في المملكة المتحدة فاجأ الكثير من الوزراء والبرلمانيين في الأوساط السياسية العليا في البلاد. ففي تشرين الاول 2022، وعند توليه السلطة، قطع ريشي سوناك خمسة وعود أساسية باسم حكومته: خفض التضخم، زيادة النمو، خفض الدين العام، وقف الهجرة غير الشرعية، وتقليص قوائم الانتظار في خدمة الصحة الوطنية. فلماذا اتخذ هذا القرار الكبير؟
ان الفرضية الأكثر وضوحًا في الوقت الحالي، هي أن ريشي سوناك يرغب في تركيز حملته الانتخابية على الاقتصاد. فمنذ توليه السلطة، انخفض التضخم السنوي من 11.1٪ في تشرين الاول 2022 إلى 2.3٪ في أيار 2024، متجاوزًا هدف 2٪ الذي كان متوقعا لنهاية 2025. ومن المنتظر أن تنخفض أسعار الفائدة في الأشهر القادمة.
بالإضافة إلى ما سبق، تم تنفيذ خفض ضريبي مسؤول، ولكنه ملحوظ، إذ يمثل انخفاضًا متوسطًا قدره 900 جنيه إسترليني. كما أن الدين بالنسبة الى الناتج المحلي الإجمالي، رغم أنه لا يزال كبيرًا، بات في طريقه إلى الانخفاض التدريجي: من 102٪ في 2022 (عند وصول سوناك) إلى 97٪ في 2024، مع توقعات بمزيد من الانخفاضات الملحوظة. هكذا يسعى سوناك إلى لعب ورقة الاقتصاد، لا سيما أن الاستطلاعات التي أجرتها مؤسسةYouGov تشير إلى أن الاقتصاد هو أول قضية تهم الناخبين البريطانيين.
ويراهن ريشي سوناك أيضًا على عنصر المفاجأة لزعزعة خصومه:
أولاً، من خلال استهداف المعارضة العمالية التي تتصدر كل الاستطلاعات. فالحزب العمالي، بقيادة كير ستارمر، لم يكن يتوقع انتخابات مبكرة وسيتعين عليه التعجيل في إعداد برنامجه الانتخابي الذي يثير خلافات داخلية واضحة. وتشمل نقاط الخلاف الأكثر بروزًا، السياسة الخارجية، لا سيما النهج المتبع تجاه إسرائيل في حربها في قطاع غزة، والتمويل الكبير، ولكن شبه المستحيل للوعود البيئية، وكذلك الوعود الضريبية. ويأمل سوناك في أن يؤدي ضيق الوقت وتأثير المفاجأة إلى خلق انقسامات داخل الحزب العمالي، ما يتسبب في حرب داخلية مشابهة لتلك التي يعاني منها المحافظون منذ سنوات. كما يأمل أن يلعب على افتقار زعيم الحزب العمالي للكاريزما، وقد هو يعاني من ضعف الحضور في المناظرات التلفزيونية.
ثانيًا، يريد سوناك أيضًا المراهنة على تأثير المفاجأة على حزب الإصلاح البريطاني (Reform UK) وهو حزب يميني متطرف، منبثق من الجناح اليميني للحزب المحافظ، ويقوده نايجل فاراج، وكان يحصل على 12٪ في استطلاعات YouGov . ومعلوم أنه لن يكون لدى حزب الإصلاح البريطاني الوقت الكافي لتنظيم حملته بفعالية. وسبق لنايجل فاراج ان اعلن أن حزبه لن يشارك في الانتخابات العامة البريطانية، ما سيصب في مصلحة سوناك الذي سيتمكن من استعادة جزء كبير من هذه الأصوات.
ثالثاً وأخيرًا، يفضل ريشي سوناك اللعب على الأمان وتقديم موعد الانتخابات خوفًا من تدهور الأمور في بعض القضايا. نجاحه الاقتصادي يمثل حجة قوية ضد العماليين، الذين شكل الاقتصاد نقطة ضعف تاريخية لهم خلال الحملات الانتخابية. يخشى سوناك أن تصبح هذه القضية أقل أهمية للناخبين، ما سيؤدي إلى تراجعه في الاستطلاعات. وهولا يريد المخاطرة بفشل قانون الهجرة المتعلق برواندا وإقلاع الطائرة الأولى المتجهة إلى عاصمتها كيغالي. بالإضافة إلى ذلك، تشير توقعات قناة “سكاي نيوز” البريطانية في بداية أيار إلى أن العماليين لن يحصلوا إلا على أغلبية نسبية في الانتخابات العامة المقبلة. ولا ننسى أن آخر استطلاع أجرته صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية يشير إلى أن الفارق بين العمال والمحافظين تقلص إلى 12 نقطة مئوية فقط. ويعول سوناك على هذا النوع من التوقعات. وسيحاول بقدر الإمكان قلب الطاولة لمصلحته للحصول على أي شكل من اشكال الأغلبية، حتى لو كانت نسبية.
استنتاجاً، رغم أن العديد من المراقبين يعتقدون أن تقديم موعد الانتخابات العامة يمثل لريشي سوناك مقامرة محفوفة بالمخاطر، يأمل هذا الأخير، ولو باقتناص فرصة ضئيلة، لقلب الواقع وتحويل خطوته الى مناورة استراتيجية عبقرية. وفي مواجهة العديد من المشاكل الموروثة وشعبيته التي لا تزال منخفضة، يسعى سوناك إلى تحسين فرصه قدر الإمكان للفوز، حتى لو جزئيًا، في الانتخابات المقبلة. ورغم الانقسامات الداخلية داخل حزبه، فقد نجح هذا التكنوقراطي في استعادة بعض الاستقرار في المملكة المتحدة مطلقا مساراً تغييرياً اقتصادياً إيجابياً. على سوناك الآن أن يثبت في شهر ونصف أن حزب العمال ليس خيارًا قابلاً للنجاح. والحقيقة أن المعارضة تستفيد من إخفاقات المحافظين دون تقديم خطة بديلة واضحة ودقيقة. ويبدو أن وحدة المحافظين حول سوناك، رغم صعوبة تحقيقها، ستكون ضرورية لتسليط الضوء على نقاط ضعف حزب العمال الحالية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو، هل ان خطوة ريتشي سوناك اتت متأخرة؟