مع نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الروسية بهذه النسبة العالية من ثقة الشعب الروسي بقيادته، يكون “الغرب” قد دخل مرحلةً جديدةً من المراوحة الاستراتيجية بعد قرون من الهيمنة على مُقدّرات العالم، وبعد أن أعاد تسيُّدَه للنظام العالمي الجديد، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وربحه لكامل مرحلة “الحرب الباردة”، ونشوء نظام هيمنة “القطب الواحد”، أو الوحيد ممثلاً بالولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في آسيا وأوروبا، وتوطيد قوّة “حلف الناتو” وتحويله إلى قوّات للتدخّل العسكري، والسريع أحياناً دعماً لمنظومة العولمة، ومنظومات “اللبرلة” الإجبارية التي خضع لها الاقتصاد العالمي على هيئة متوحّشة وسافرة من آلياتٍ متكاملة للإخضاع المدعوم بأنظمةٍ متكاملة من علاقات التبادل والإنتاج والتوزيع، وفقاً لمصالح الشركات “الغربية” العملاقة في كلّ مجالات الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافةً إلى السياسية.
دخل “الغرب” كلّه، وهو يدخل الآن إلى هذه المرحلة الجديدة، وهو يرى ويراقب تداعي نظام “القطب الواحد”، وتصدُّع منظوماته الإخضاعية، وتفكّك أقطابه المكوِّنة.
الضربة الاستراتيجية الأكبر تلقّاها “الغرب” أولاً في أوكرانيا، عندما راهن على هزيمة روسيا وتفكُّكها قبل العملية العسكرية الروسية بسنوات، وتوسُّع “حلف الناتو” ووصلت عدوانيته إلى مشارف حدود الدولة الروسية، وتوّج مساعيه لتقويض الدولة الروسية من خلال أداته ودميته في أوكرانيا، وانتظر أن تكون العملية العسكرية الروسية والتي كان “الغرب” يدرك بأنّها ستكون حتمية هي بداية هذا التقويض، وزجّ بكلّ قوّته ــ أي “الغرب” ــ من خلف أوكرانيا، بما فيها الميليشيات، أملاً في هزيمة الجيش الروسي أو استنزافه، وتوريطه في حربٍ لن يتمكّن الاقتصاد الروسي من تحمُّل تكاليفها، بالترافق مع عقوبات اقتصادية لم يسبق لها مثيل في كامل التاريخ البشري، والتي وصلت الآن إلى أكثر من (16,000) ستة عشر ألف عقوبة، وأملاً في أن تؤدّي هذه العقوبات إلى تمرُّد شعبي، ستكون نتيجته “المتوقّعة” هي سقوط النظام وتقويض الدولة الروسية.
فماذا كانت النتيجة حتى الآن؟
الاقتصاد الروسي يتجاوز كلّ العقوبات، ويصبح الاقتصاد الخامس عالمياً، وهو الآن يقترب كثيراً من المرتبة الرابعة عالمياً على حساب اليابان، ويتجاوز الاقتصاد الألماني، ويسجّل معدّلات عالية وصلت إلى 5,5%، وهو مُقبل على معدّلات أعلى، حسب تقارير المؤسّسات الاقتصادية والمالية “الغربية”.
والقوات الروسية أحكمت سيطرتها على المناطق التي دخلتها، وتمّ ضمّها إلى روسيا باختيار سكّانها الطوعي حسب معطيات الأمم المتحدة، ولم تسجّل أيّ خروقات تُذكر في نتائج الاستفتاءات التي جرت في هذه المناطق.
والقوات الروسية تمكّنت من إحباط كلّ خطط “حلف الناتو” للهجوم الأوكراني المضادّ، وفشلت القوات الأوكرانية فشلاً مدوّياً بالرغم من أنّ الدعم العسكري “الغربي” لهذه القوات قد فاق كلّ الأرقام، و”حطّم” كلّ التوقُّعات.
وروسيا اليوم هي أكبر دولة نووية في العالم، وتفوق قوتها على هذا الصعيد كلّ ما يملكه كلّ “الغرب” من أسلحة نووية.
ولدى روسيا من التفوُّق في مجال الصواريخ الاستراتيجية ما يحتاج “الغرب” إلى عقدٍ كامل للحاق بالمستوى الحالي للصواريخ الروسية. وعلى صعيد التجارة الدولية فإنّ روسيا، كذلك لم تتراجع بأيّ صورةٍ جدّية بعد كلّ هذا الحصار، وبعد كلّ هذه العقوبات، وأصبحت اليوم دولة محورية في عدّة منظومات اقتصادية وسياسية، وخصوصاً “البريكس”، إضافةً إلى علاقات استراتيجية للشراكة الاقتصادية مع الصين، ومع دول صاعدة كبيرة في عالم اليوم، ومع كلّ القارات من دون استثناء.
هنا خسرت الولايات المتحدة و”الغرب” من خلفها أكبر معركة استراتيجية، وتمّت الإطاحة بكامل خطط “الغرب” للهيمنة، أو التفرُّد بمقدّرات العالم.
وكذلك، خسرت الولايات المتحدة معركتها الاستراتيجية الثانية مع الصين بعد أن ركّزت كلّ جهودها وطاقتها لمنع الصين من استمرار تمدُّدها في كلّ الاقتصاد العالمي، وذهبت إلى بحر الصين في محاولة تهديدٍ مباشرة، وتحريض تايوان للتمرُّد على وحدة الأراضي الصينية.
فقد تجاوز الاقتصاد الصيني اقتصاد الولايات المتحدة، وبلغ الناتج المحلّي الإجمالي الآن قرابة الثلاثين تريليون دولار متجاوزاً الناتج الأميركي الذي يراوح حول الـ 25 تريليون دولار.
وفشلت الولايات المتحدة بجرّ أوروبا، وحتى اليابان إلى جانبها بعد أن أيقنت استحالة استغناء أي بلدٍ كبير أو صغيرٍ في عالم اليوم عن العلاقات النشطة مع الاقتصاد الصيني، وبعد أن أيقنت تايوان نفسها أنّ مصيرها لن يكون بأفضل حالٍ من حالة أوكرانيا إن هي قبلت أن تلعب الدور الأوكراني ضدّ الصين.
وأصبح واضحاً تماماً أنّ الحلّ الوحيد أمامها هو القبول باستقلالها الاقتصادي والاجتماعي بنظامٍ خاص في إطار السياسة الخارجية والدفاعية للدولة الأمّ، وأنّ الصين لن تقبل بغير ذلك، وأنّ هذا هو الحلّ الوحيد الممكن.
وحاولت الولايات المتحدة من خلال “مجموعة الـعشرين” أن تمنع التمدّد الاقتصادي للصين من خلال ما سُمّي بـ”الممرّ الهندي” في مواجهة “طريق الحرير” إلى أن تبيّن الآن، وخصوصاً بعد حرب الولايات المتحدة على قطاع غزّة، وعلى الشعب الفلسطيني دعماً لإسرائيل بأنّ هذا الممرّ لن تقوم له قائمة أبداً ومُطلقاً من دون الهيمنة الكاملة على كامل إقليم الشرق الأوسط، حيث يبدو أنّ الولايات المتحدة اليوم ومن خلفها “الغرب” كلّه، ومن خلال تضعضع الدور الإسرائيلي وتراجع مكانته في الإقليم هي أبعد ما تكون عن مثل هذه الهيمنة التامّة.
حاولت الولايات المتحدة أن تهرب من حرب أوكرانيا، وأن تهرب من بحر الصين، وهي تهرب الآن أملاً في أن تشكّل الحرب على قطاع غزّة “فرصتها” الوحيدة لإعادة الهيمنة التامّة على إقليم الشرق الأوسط ،مستفيدة من الفرصة التي وفّرتها على دولة الاحتلال في ردّها على أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل المنصرم، وأن تحوّل هذه الحرب إلى المعول الرئيسي للإحكام على إقليم غنّي بمصادر الطاقة، وحيث من خلال هذه المصادر تستطيع الولايات المتحدة التخفيف من “اعتمادية” العالم على مصادر الطاقة الروسية، وحيث تستطيع الحدّ من تدفُّق هذه المصادر على الصين ــ أكبر مستهلك لهذه المصادر في العالم ــ وحيث تتحكّم ممرّات الإقليم بقدرٍ كبير من التجارة الدولية، ومن إمدادات النفط والغاز، وحيث أنّ منطقة الإقليم هي واحدة من أكثر مناطق العالم نشاطاً في التجارة الدولية، ومن أسواق السلاح في العالم.
فشلت الولايات المتحدة، وهي تفشل الآن في “استثمار” هذه الحرب بسبب أزمة إسرائيل، وأزماتها السياسية والعسكرية والأمنية، وعدم قدرتها على الانتصار، بالرغم من كلّ الدعم الذي تلقّته من الولايات المتحدة و”الغرب”، وهي تراوح الآن في البحث عن مخرجٍ “ما” من حجم الإخفاق الإسرائيلي والورطة الأميركية التي وجدت الولايات المتحدة نفسها منغمسةً فيها من دون تحقيق أيّ نتائج حقيقية تمكّنها من الاستثمار الذي راهنت عليه.
بعد ما يقارب نصف السنة من حرب الإبادة والتجويع، ومن الدعم العسكري لدولة الاحتلال بجسور جوّية لم تتوقّف، ومدّها بأسلحةٍ ذكيّة وتدميريّة لم تخرج مطلقاً من مخازن الجيش الأميركي إلّا في هذه الحرب الهمجية على المدنيين الفلسطينيين، بعد الفرصة تلو الفرصة التي أُعطيت لأكبر وأقوى جيش في الإقليم، وهو جيش الاحتلال الإسرائيلي تجد الولايات المتحدة أنّ وجودها في هذا الإقليم، والذي هو حصان الرّهان لها في الدور والمكانة الكونية، بل هو الحصان الأخير في الواقع، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام حربٍ إقليمية محتملة قد تُطيح كلّياً بهذا الدور وهذه المكانة، أو قبول البحث عن مخارج سريعة من ورطتها الجديدة.
وفي البعد الأخلاقي سقطت الولايات المتحدة سقوطاً مُدوّياً من خلال دعمها للإبادة الجماعية، ووقوفها وراء الفاشية الصهيونية، وسقط معها كلّ قاموس حقوق الإنسان والديمقراطية، وسقط “الغرب” صريعاً في معادلة ازدواجية المعايير، وانهارت المنظومة “الغربية” كلّياً، وأصبح واضحاً أنّ الشرق هو من يحمل قيم الحرّية الحقيقية، وقيم التعايش والسلام، وقيم التعاون من أجل التنمية والازدهار، وأنّ “الغرب” لم يحتمل أن يُدرّس الأدب الروسي في جامعاته ومعاهده، ولم يتحمّل أن يلعب فريق قدمٍ روسي مع فرق العالم، بل ولم يحتمل أن يتصوّر فقط بأنّ الجيش الروسي قد حافظ على حربٍ نظيفة مقابل الإبادة الجماعية التي دعمها “الغرب” ضدّ شعبنا الفلسطيني.