روسيا

روسيا العظمى والدفاع عن الحلفاء

نجحت حكومة الرئيس فلاديمير بوتين فى استغلال النتائج الكارثية لتقلبات السياسة الأمريكية منذ 2001، من تدخلات عسكرية ورغبة فى الهيمنة المنفردة على الشرق الأوسط إلى التردد الاستراتيجى.

رتبت حروب الولايات المتحدة الفاشلة فى أفغانستان والعراق، مضافا إليها الاكتفاء الذاتى فيما خص موارد الطاقة أمريكيا، تبلور توافق داخل نخبة الحكم فى واشنطن بشقيها الديمقراطى والجمهورى خلال العقد الماضى باتجاه الحد التدريجى من الوجود العسكرى والاستثمار السياسى فى منطقة الشرق الأوسط.

فى المقابل، كانت عوامل التراجع التدريجى للدور الأمريكى وفراغات القوة الناجمة عنه وتصدع مؤسسات الدولة الوطنية فى سوريا وليبيا والسودان تمكن روسيا من العودة إلى المنطقة بعد أن غابت عنها فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتى بداية تسعينيات القرن العشرين وفى ظل عشرية الهيمنة الأمريكية الممتدة بين حرب تحرير الكويت ١٩٩١ وهجمات الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١. عادت روسيا بعد أن تورطت الولايات المتحدة فى غزوين كارثيين لأفغانستان والعراق، واستنزفت قدرات واشنطن العسكرية والسياسية، وواجهت تداعيات بالغة السلبية على صورتها فى عموم العالم العربى والإسلامى.

قبل نشوب الحروب الروسية – الأوكرانية وحرب غزة، مكن التراجع الأمريكى روسيا من توسيع مجالات فعلها الإقليمى فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتتجاوز العلاقة الخاصة مع إيران والتحالف مع سوريا بمضامينه العسكرية والأمنية إلى الانفتاح على تعاون اقتصادى وتجارى وتصدير للسلاح وعروض لتصدير تكنولوجيا الطاقة النووية باتجاه مصر، ودول الخليج، والعراق، والجزائر. بل إن روسيا دعمت عودتها إلى الظهور كقوة كبيرة فى المنطقة من خلال تدخلها العسكرى بالوكالة (ميليشيات فاجنر) فى بعض الحروب والصراعات المشتعلة إن فى ليبيا منذ سنوات أو فى السودان منذ ٢٠٢٣.

بينما رحب أعداء الولايات المتحدة كإيران وسوريا باتساع دور روسيا بغية الحد من الضغوط الأمريكية فيما خص المشروع النووى للأولى وفيما خص إعادة دمج الثانية فى المنظومة العربية، تريد الدول العربية الأخرى ألا تقايض علاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة بالعلاقات المتطورة مع روسيا، ولا تريد أيضا أن يُضغط عليهم للاختيار بين القوة العظمى التى مازالت تحتفظ بالوجود العسكرى الأكبر فى المنطقة وهى الولايات المتحدة وبين قوة عظمى لها مواطئ قدم عسكرية وأمنية تقليدية ولا تمانع فى تصدير السلاح وتكنولوجيا الطاقة لسد فجوات فى الأمن الشامل لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهى روسيا.

خلال السنوات الماضية، نجحت حكومة الرئيس فلاديمير بوتين فى استغلال النتائج الكارثية لتقلبات السياسة الأمريكية منذ 2001، من تدخلات عسكرية ورغبة فى الهيمنة المنفردة على الشرق الأوسط إلى التردد الاستراتيجى والتراجع عن التعهدات الأمنية المقدمة للحلفاء الإقليميين والانسحاب العسكرى فى أعقاب ٢٠١١، لكى تعيد صياغة أدوارها فى المنطقة فيما وراء موضع نفوذها التقليدى فى إيران وسوريا.

قدمت موسكو نفسها للشرق الأوسط كقوة استقرار تبحث عن التعاون العسكرى والأمنى والاقتصادى والتجارى مع جميع حكومات المنطقة دون أن تخير العرب والشرق أوسطيين بينها وبين تحالفاتهم القائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية. تركت موسكو واشنطن تضع القيود على صادرات السلاح للمنطقة، وعرضت هى سلاحها دون شروط.

وظف صناع القرار فى الرئاسة الروسية وفى الأجهزة الدبلوماسية حالة الغموض التى صنعتها تقلبات السياسة الأمريكية فيما خص أمن الشرق الأوسط، وحاولوا هم تصدير صورة جديدة لروسيا كقوة عظمى قادرة على التدخل العسكرى والأمنى المباشر للدفاع عن حلفائها (سوريا مثالا)، وتستطيع أيضا التأثير على تطورات ونتائج الصراعات الدائرة فى المنطقة (ليبيا مثالا)، ولا تعارض الحلول الدبلوماسية لإنهائها كما تفعل مع إيران وتركيا فيما يتعلق بسوريا، ومع مصر والإمارات وتركيا وفرنسا فيما خص ليبيا. كما استثمرت الحكومة الروسية فى أدوات جديدة لصناعة الصورة الإيجابية والترويج لها، أبرزها القنوات التليفزيونية الناطقة باللغة العربية.

عملت روسيا على مد شبكات تصدير السلاح والتعاون الأمنى والاقتصادى والتجارى مع عموم الدول الفاعلة فى الشرق الأوسط، بحيث لم يمنع دورها فى سوريا من صياغة علاقة استراتيجية مع إسرائيل ولم يمنعها القرب من إسرائيل من الحفاظ على روابطها القوية مع إيران على الرغم من العداء المستمر والمتصاعد بين تل أبيب وطهران.

كذلك لم تمنع علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل وإيران موسكو من أن تصدر السلاح إلى السعودية والإمارات ومصر وتركيا، وأن ترفع معدلات التعاون معها جميعا ومع الجزائر فى شمال إفريقيا. بل نجح صناع القرار الروس فى تطوير تحالفات مصلحة مع حكومات الشرق الأوسط فيما خص أسعار الطاقة العالمية التى تريد موسكو والعواصم الخليجية الحفاظ على ارتفاعها الراهن دعما لموازناتها العامة، ومزجوا بين ذلك وبين الاتفاق مع مصر والجزائر على بناء مفاعلات نووية بتمويل وتكنولوجيا من روسيا.

تأسيسا على ذلك، يمكن القول أن الهدف الاستراتيجى الواضح للأدوار الروسية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو عدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية بالتعامل مع المنطقة كالقوة المهيمنة الوحيدة. والهدف الثانى هو الضغط باتجاه تبلور نظام أمنى جديد يرث الانفرادية الأمريكية وتشارك فى صياغته القوى العظمى كلها، أى روسيا والصين بجانب الولايات المتحدة الأمريكية وبجانب الأطراف الإقليمية المؤثرة.

لذلك تقدم روسيا نفسها كقوة عالمية بديلة لا تتقلب سياساتها بتغير الإدارات وتستطيع التعاون العسكرى والأمنى والتنسيق فيما خص أسعار الطاقة بعيدا عن خطوط الصراع التقليدية بين إسرائيل وإيران وبين الأخيرة ودول الخليج وبين تركيا والعديد من الأطراف العربية.

لذا لم يكن غريبا أن تصطف إيران وسوريا مع روسيا وأن ترفض إدانة العدوان الروسى على أوكرانيا وتمتنع عن تطبيق العقوبات الغربية. غير أن الصدمة الأمريكية جاءت مع ابتعاد أصدقاء واشنطن والغرب فى الشرق الأوسط عن الإدانة الصريحة لروسيا وعن تطبيق العقوبات. حكومات السعودية والإمارات ومصر وتركيا، بل وحكومة حليف واشنطن الأول فى المنطقة، إسرائيل، جميعها رفضت تطبيق العقوبات وأبقت على تعاونها وتنسيقها مع موسكو دون تغيير. بل إن حكومات دول مجلس التعاون الخليجى رفضت ضغوط إدارة بايدن لرفع معدلات إنتاجها من النفط والغاز الطبيعى لكى تنخفض الأسعار الحالية للطاقة، ومكنت دول الخليج بذلك روسيا من الحفاظ على حصيلتها العالية من صادرات الطاقة.

حصدت روسيا، إذا، بعضا من ثمار تحالفات المصلحة مع حكومات الشرق الأوسط وثمار سياساتها البراجماتية التى لم تضع شروطا على التعاون مع الجميع وعملت على تقديم صورة جديدة لروسيا قوية وقادرة على التدخل العسكرى وتصدير السلاح والتكنولوجيا وتقديم التعهدات الأمنية، صورة جديدة تستعيد شيئا من ذاكرة الحضور السوفييتى المؤثر فى شرق أوسط النصف الثانى من القرن العشرين وتضع روسيا اليوم على مسرح الأحداث الإقليمية كقوة عظمى تؤثر فى مجريات الأمور فى إيران وسوريا وترفض التورط فى حرب غزة بعيدا عن بعض الجهود الدبلوماسية لإقرار وقف إطلاق النار فى مجلس الأمن وبعض محاولات التنسيق بين الفصائل الفلسطينية.

عمرو حمزاوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى