استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع وصوله إلى الكرملين منذ عام 2000، استنساخ لغة القوة عن الغرب لفرض التسويات، فطبقها في الشيشان وجورجيا، وعمل على ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، وها هو اليوم يخوض عملية عسكرية خاصة في شرق أوكرانيا بهدف ضم مقاطعات يعتبرها حاجة إلى ضمان أمن بلاده القومي.
دبلوماسية “العصا الغليظة” راقت لبوتين، كيف لا وبلاده تحتل المرتبة الأولى من حيث المخزون الإستراتيجي النووي، هذا وجيشه يصنّف من أقوى الجيوش في العالم. كيف لا، وكانت روسيا تعتبر المصدر الرئيسي لتمويل أوروبا بالغاز الطبيعي المسال، الورقة التي أسقطت من يدها نهائيا، بعدما رفضت أوكرانيا تجديد عقد نقل الغاز الروسي عبر أراضيها في نهاية ديسمبر الماضي.
تتمتع روسيا بمصادر قوة، هذا لا شكّ فيه، إلا أنّ ذلك لا يمنع أنّها قد تذهب في خيارات خاطئة، ومنها دخولها في حرب استنزاف طويلة مع الغرب في شرق أوكرانيا، كان من الممكن تفاديها. فالغرب الأوروبي اعتبر أن الهجوم الروسي يهدد أمن أوروبا القومي بشكل عام.
لكنّ البعض ينتظر أنّ هذا الخيار قابل لاستيعابه إن طبّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعوده الانتخابية وعمل على إيقاف الحرب في شرق أوكرانيا، ولكن هذا أيضا بات خيارا صعبا، مع بروز نوايا ترامبية جديدة تتعلّق بالموارد الطبيعية التي تختزنها أرض أوكرانيا.
عرف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أين يأكل كتف ترامب، فحاكاه بحسب ما يبتغيه، لهذا ذهب الرجل للمقايضة على طريقة رجال الأعمال، بين استمرار واشنطن في دعمها لكييف، مقابل إعطاء الولايات المتحدة حقّ ضمان أمن المعادن الأرضية النادرة في أوكرانيا. إذ قال ترامب في حديثه عن أوكرانيا “إنهم يملكون الكثير من الأصول تحت الأرض، وفي المقام الأول، المعادن النادرة، ونحن نريد ضمان أمنها.” وأشار ترامب الاثنين الثالث من فبراير الجاري إلى أنه يتوقع إبرام اتفاق مع كييف، حيث يجب على السلطات الأوكرانية ضمان أمن إمدادات المعادن مقابل الحصول على مساعدة مالية وعسكرية من واشنطن.
إقرأ أيضا : كيف يريد بوتين التفاوض مع ترامب بشأن إنهاء الحرب
لا نهاية للحرب في أوكرانيا على ما يبدو، وإن عهد ترامب سيستمر في تقديم الدعم لكييف، تماما كما حال الدول الأوروبية حيث كشف وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكرنو الخميس عن تسليم بلاده أوكرانيا أولى طائرات “ميراج 5 – 2000”، المقاتلة لمساعدتها في الدفاع عن مجالها الجوي ضد روسيا.
خيار العملية العسكرية في أوكرانيا قد تجد فيه القيادة الروسية قرارا خاطئا بعدما لمست إصرار الغرب على الاستمرار في وضع بوتين “تحت الضغوط القصوى”، وهذا ما كشفه مسؤول أوروبي بعد المكالمة الأولى بين وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس ووزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو. وبعدما وجدت موسكو “عدم جدية” حليفتها بكين في خوض غمار الحرب المباشرة، رغم الإصرار الغربي على ممارسة شتى أنواع الضغوطات والاستفزازات على الصين.
يتمتّع الرئيس بوتين برؤية سياسية جعلت من روسيا تنهض من التبعية للغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، إلى حالة فرض الحضور على الساحة الدولية، لا بل المنافس القوي لمصالح الغرب في العالم. ولكن البعض يجد أن رهان موسكو على نظام بشار الأسد في سوريا كان خاطئا أيضا عندما وقفت في وجه الإرداة الشعبية السورية في التغيير.
ذكرت صحيفة التلغراف البريطانية أن “توسع حلف شمال الأطلسي في السنوات الثلاث منذ توسعت روسيا في حربها على أوكرانيا أدى إلى تحويل بحر البلطيق، الذي كان متنازعا عليه بين التحالف الأطلسي وروسيا، إلى بحيرة تابعة للحلف”.
أمام هذا التراجع للحضور الروسي على بحر البلطيق، يبدو أيضا من المرجح أن تفقد روسيا وجودها البحري في البحر المتوسط، إلا أن سقوط النظام في سوريا، حليف روسيا، فاقم الضغط على البحرية الروسية للخروج من البحر المتوسط، إذ بعد استلام الفصائل الحكم في دمشق، بدأت السفن الروسية في الوصول إلى ميناء طرطوس السوري، القاعدة البحرية الروسية الرئيسية على المتوسط، كجزء من عملية إخلاء واضحة.
رغم محاولة التقارب الروسي مع الحكم الجديد في سوريا المتمثل اليوم بالرئيس أحمد الشرع، إلا أنّ المفاوضات بينهما قد لا تأتي بالنتائج المرجوة لموسكو، حيث تسيطر حالة من “عدم اليقين” لدى القوات المتواجدة في سوريا من البقاء أو الانسحاب. فالأمور قد لا تقف عند نوعية المفاوضات بين البلدين، بل أيضا تتعلق برغبة أوروبية في إفشال تلك المفاوضات، من خلال مسعى أوروبي لاحتضان الشرع وما بات يمثله في سوريا من سلطة. إذ عبّر المستشار الألماني أولافسولتز عن رغبة الاتحاد الأوروبي في رفع العقوبات المفروضة على سوريا منذ نظام بشار الأسد، وذلك عبر اتصال هاتفي أجراه مع الشرع ودعاه من خلاله إلى زيارة ألمانيا.
شكلت قاعدة طرطوس بالنسبة إلى روسيا أهمية بالغة لبسط نفوذها في أنحاء جنوب أوروبا والشرق المتوسط. إذ كان بوسع السفن الحربية التابعة للبحرية الروسية التزود بالوقود وإعادة التسليح في طرطوس، وهو ما يلغي الحاجة إلى القيام برحلات طويلة ومضنية للعودة إلى المياه الروسية.
رغم أن هناك خيارات روسية يجد فيها البعض بديلا عن ميناء طرطوس، وهي بحسب المنطق الجزائر أو بورتسودان في السودان أو في شرق ليبيا في طبرق أم بنغازي، إلا أنّ تلك الخيارات لن تكون البديل الأفضل لميناء طرطوس، لاعتبارات جيوسياسية.
مهما تنوعت الخيارات الروسية لبناء قاعدة عسكرية بحرية على البحر المتوسط، إلا أنّ هذا لا يحجب النظر عن أن الرئيس بوتين من انحيازه للأسد وصولا إلى شن حرب على أوكرانيا، يبدو أنه وضع رهاناته في الأماكن الخاطئة، فهل سيتعظ قبل فوات الأوان؟.