ملفات فلسطينية

“رفح” بين أمرين كِلاهُما شرّ…إمّا الإبادة أو الترحيل؟

التباطؤ في العمليات الحربية للاحتلال جنوب القطاع قد يكون مرده ظاهر الأمر إلى المفاوضات الجارية في قطر، لكنها في الواقع هي فرصة مدروسة لإعادة العدو تنظيم وحداته المقاتلة بغية التحضير العملياتي للهجوم على “رفح”. 

بعد مضي عقود من الزمن على عام “النَكبَة”، العام الذي ارتكبت فيه العصابات الصهيونية المُسلّحة عشرات المجازر ضمن حملات التطهير العرقي، التي راح ضحيتها آلاف المدنيين الفلسطينيين العُزّل.

لتبقى شواهد “المقابر الجماعية” وشهادات الجنود الصهاينة الذين شاركوا في ارتكابها دليلا دامغا على وقوعها وتأكيدا واضحا على وحشيتها، فإنّ الصهيونية لم تكتف بهذه المجازر فقط، بل أضافت عليها جرائم طَمس لمعالم الحضارات الاسلامية والعربية المتجذرة في البلدات الفلسطينية وقُراها، في محاولة لاغتيال التراث الفلسطيني في تزوير فاضح للتاريخ وانقلاب واسع على الجغرافية البشريّة لدولة فلسطين، متوهّمة قبل العالم أجمَع وموهِمة أجيال المستوطنين بأنّ فلسطين التاريخية بقعة من الأرض غير مأهولة فلا سكان ولا عمران فيها، بل هي مهجورة منذ مئات السنين بانتظار الاستيطان فيها، في وقت أعطت فيه الحركة الصهيونية وعوداً فارغة وحوافز وهمية لاستقطاب اليهود بالحضور الى فلسطين.

ويبقى الحافز الاستراتيجي الأول والوعد الأبرز هو “الأمن والأمان”، هذا الوعد كان بمثابة “التأشيرة” الرسمية لدخول الأراضي المحتلة، منحته الصهيونية لجموع المستعمرين الوافدين إلى فلسطين، فجعلته في صلب عقيدة جيشها الذي اعتبر الحفاظ عليه أولوية مُطلقة، وحَقاً مشروعاً يتوجّب الدفاع عنه…لأنه متى فُقد هذا الوعد ذهب معه عنصري البقاء والوجود لدى مجتمع المستوطنين ككل، فتغلب فوضى المصلحة الفردية لتتمرد على سلطة الكيان الغاصب وذلك على قاعدة: “اللهم نفسي”…ولأول مرة منذ نشأة هذا الكيان يطفو على سطح المجتمع الصهيوني شعور عارم بالقلق والخوف بسبب فقدانهم لهذا الوعد، وتحديداً بعد “يوم 7 أكتوبر” حيث ارتَدّ الأمر على العدو، ليُسجّل في التاريخ يوم “نَكبَة” بالنسبة له، أكدته تداعيات الأحداث التي توالت، أبرزها:

فاجأت المقاومة في القطاع يوم “طوفان الأقصى”الجنود الصهاينة في غلاف غزة ، فقتلت وأسرت المئات منهم، ما شكل صدمة كبيرة لمجتمع المستعمرين حيث اهتزت ثقته بالحكومة والجيش، الذي وعلى الرغم من حربه الطويلة والقاسية على غزه، إلا أنّه لم يستطع حتى الآن من استعادة ثقة مجتمعه وهيبة الجيش المفقودة.

في “8 أكتوبر” دخل “حزب الله” مباشرة على خط معركة غزة في إطار الدعم والإسناد للجبهة، وبعد مضي 5 أشهر ويزيد، يبدو الوضع في مستوطنات الشمال كارثي فالمنازل مدمرة والشركات مغلقة والنازحين بعشرات الآلاف منفصلين عن مساكنهم منهكين معنوياً ومادياً، والأخطر على هذا المجتمع المحطم هو الحزام الناري والأمني الذي فرضه “حزب الله” بعمق 10 كلم داخل الأراضي منذ نشأة الكيان المحتل، ليفقد معه المستوطنين مفهوم الوعد الكاذب ب”الأمن والأمان”، ما سيؤدي إلى رحيل الشباب دون عودة.

ميناء “إيلات” على خليج العقبة،والذي تصل البضائع إليه من الصين والهند واليابان وأستراليا…خرج لفترة الطويلة من الخدمة البحرية بعد الحصار اليمني وانعكاس ذلك على الأمن الاقتصادي للكيان ومردوده على معنويات مجتمع المستعمرين.

الإصرار على تجنيد اليهود من طائفة “الحريديم” (تعدادهم حوالي 750 ألف) كنقطة اتفاق نادرة بين الحكومة والمعارضة في الحرب الجارية على قطاع غزة، واكبه تهديد الحاخام الأكبر في الطائفة “يتسحاق يوسف” بمغادرة إسرائيل، وضع الحكومة في مأزق جديد، فعلى الرغم من إعفاء اليهود الأرثوذكس المتشددين “الحريديم” من التجنيد منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، جاءت مطالب إلزامهم بالتجنيد، مثل بقية المواطنين، ليكشف الحاجة الملحّة لزيادة عدد الجنود، مع استمرار الحرب التي لا يوجد أفق لنهايتها، واحتمال فتح جبهة أخرى على الحدود الشمالية مع “حزب الله” في لبنان، ما يضع شريحة كبيرة من مجتمع المستوطنين في دائرة البحث عن بلد أكثر أمناً وأماناً لممارسة معتقداتهم.

منذ “7 أكتوبر” بلغ معدل الهجرة الفردية إلى خارج الكيان عشرات الآلاف غالبيتهم من ميسوري الحال، وذلك هرباً من واقع الحرب وبحثاً عن الأمان.

بلغ عدد العمليات في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948، منذ السابع من أكتوبر نحو 7 عمليات، كانت عملية الأخوين مراد وإبراهيم نمر في راموت الأكثر إيلاماً بينها، من حيث إنها أوقعت 3 قتلى وعدداً من الجرحى، وهي نسبة قياسية من حيث المدة والمكان ليزداد قلق المستوطنين على أمنهم ومستقبلهم في هذا الكيان.

الحركات المناهضة لحكومة نتنياهو منها زعيم المعارضة “يائير لابيد” فحين أراد مهاجمة نتنياهو هاجمه في الخاصرة الرخوة، متهماً إياه بأنه غير قادر على استعادة “الأمن لإسرائيل” الكلمة التي تهز المستوطنين وتُأرق مضجعهم. كذلك معارضة أهالي الأسرى لسياسة نتنياهو الأمنية لجهة ملف أبنائهم، واخيراً حركة “ناطوري كارتا” (Neturei Karta) وهي حركة دينية يهودية مناهضة للصهيونية، ولا تعترف بدولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتعتبر أنّ قيام دولة لليهود لا يكون بسلب شعب آخر أرضه، ولا يكون إلا بإذن من الرّب ليستطيعوا العيش بأمن وأمان، وأن كل ما يحصل للكيان هو نتيجة لعصيان الرّب.

من هنا وبغض النظر عما ينتظر “بنيامين نتنياهو” من مساءلات في اليوم الأول ما بعد انتهاء الحرب على غزة، ومحاولات تجنيب نفسه كأس القضاء، فإنّ لا ريب في جديّة قراره بالهجوم على “معتقل رفح الكبير” إلى أقصى الحدود، لاعتبارات كثيرة منها:

حاجته الملحّة لاستعادة الأمن لدولته والأمان لمستوطنيه، ولا يُستكمل هذان الأمران إلا بمهاجمة مدينة “رفح”، والقضاء على “حركة حماس” ليُعيد للكيان الغاصب هيبته التي فقدها منذ “7 أكتوبر”، في وقت يعتبر نفسه مبعوث من الرّب “يهوه” ليُنقذ “دولة إسرائيل” من الخراب مع اقتراب “لعنة العقد الثامن”.

قبل القضاء على “حركة حماس” وباقي الفصائل لديه هدف قديم جديد وهو ترحيل أهل غزة، ففي قديم الاحتلال أنه خلال شهر سبتمبر من العام 1971 أسرّت حكومة العدو في حينها للبريطانيين عن وجود خطة سرية بترحيل الفلسطينيين في غزة الى العريش في سيناء أو أي منطقة أخرى.

أما في جديد “بنيامين نتنياهو” فتصريحاته بأنّ الميناء المؤقت في غزة الذي أنشأته الولايات المتحدة قبالة ساحل غزة، يمكن استخدامه لترحيل الفلسطينيين من القطاع، وبهذا يكون قد انتزع من “حركة حماس” قوتها الدافعة أي “بيئتها الحاضنة”.

التباطؤ في العمليات الحربية للاحتلال جنوب القطاع قد يكون مرده ظاهر الأمر إلى المفاوضات الجارية في قطر، لكنها في الواقع هي فرصة مدروسة لإعادة العدو تنظيم وحداته المقاتلة بغية التحضير العملياتي للهجوم على “رفح”.

هذا وقد أنهى “نتنياهو” مع نظرائه من رجال الأعمال والسياسة الأميركيين وبعض العرب اللمسات الأخيرة على الخطط ومشاريع الرسومات “لقطاع غزة” ما بعد الحرب، يظهر فيهم القطاع عبارة عن منتجعات سياحية ضخمة، تُحاكي لا بل تُنافس مشروع مدينة “نيوم” في المملكة العربية السعودية التي تنتهي المرحلة الأولى منها في العام 2025. لذا قضت خطة عملياته تدمير ممنهج “لقطاع غزة” بالكامل بمن فيه “رفح”، المدينة الوحيدة من القطاع التي لم يطالها الدمار والقضاء على “حركة حماس”، ولإنفاذ مشروعه عليه أن يُحيّد النازحين بطريقة أو بأخرى، وأن يبسط سيطرته على رفح” في غضون شهر على أبعد تقدير، ليُعلن النصر الذي يحتاجه بشدة …فهل باستطاعته ذلك، وغزة مازالت لليوم تقاوم؟ وهل بهذا يستعيد “الأمان” المفقود لمستوطنيه؟ وماذا عن جبهة الشمال؟

هي أسئلة تكمن أجوبتها في الجانب الآخر من مشهدية هذه الحرب… أما الجانب المتحالف مع العدو، أي الولايات المتحدة الأمريكية فهي وإن أوحت بأنها مع خطة لاحتلال محور “فلادلفيا” بغية السيطرة على الحدود البرية الجنوبية للقطاع، وتجنيب العدو التورط في “رفح”، مع الحفاظ على تنفيذه لمفهوم “العمليات الخاصة” في اغتيال قادة المقاومة، فإنّ إدارة “بايدن” موافقة ضمنياً على عملية “رفح”، بانتظار الضوء الأخضر لبدء التنفيذ على التوقيت “الصهيوني”، إنّما بشرط إخلاء المدنيين، ليس حرصاً بل حرَجاً…

لكن إلى أين؟…هذا ما يحدده ويفرضه “نتنياهو” بذاته، فما بناؤها لهذا الرصيف العائم “المؤقت” على ساحل غزة تحت عنوان “دخول المساعدات بسهولة أكبر”، إلاّ خدعة “هوليوودية” قضت الضرورة له في حال حوصر الفلسطينيون في “رفح”، وهو أمر واقع، بين نيران “مطرقة” نتنياهو و”سندان” السيسي، سوف يلجأوا يالتالي مكرهين إلى المنفذ الوحيد المتبقي أمامهم، وهو البحر يحتمون إليه عبر هذا الجسر الذي سيبحرون من خلاله إلى مصيرهم المجهول…لتخرج بعدها “واشنطن” وسط تصفيق دولي مُعلنة فوزها بجائزة “أوسكار للتميز” لقيامها بعمليات إنقاذ إنسانية لمئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين…

العميد محمد الحسيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى