أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن خلال إلقائه خطابه الأخير للأمة أن الولايات المتحدة تعتزم بناء رصيف عائم في البحر المتوسط، لتسهيل توريد مساعدات إنسانية إلى غزة، وتم التوضيح أن المشروع قد يدخل حيز التنفيذ الأولي خلال 60 يوماً وأن استكماله سيستغرق أربعة أشهر تقريباً.
أثار الإعلان ردود فعل وتفسيرات سياسية عدة من بينها أنها خطوة خبيثة لتمكين الولايات المتحدة من الوجود والانتشار في شرق البحر المتوسط، وعلى رغم صعوبة استبعاد هذا التفسير كلية مع استمرار القلق الأميركي من إيران والوجود الروسي في سوريا، فأعتقد بأن الوجود الأميركي العسكري قائم حالياً بالفعل في المشرق بما في ذلك بسوريا ويحقق لها أغراضها من دون تعريضها لأخطار إضافية غير محسوبة.
من الواضح أن الاقتراح الأميركي يتماشى مع رغبة إسرائيلية في غلق المنافذ المختلفة إلى غزة ما عدا تلك التي تتحكم فيها، بحيث تكون لها السيطرة الكاملة على كل مداخل القطاع ومخارجه، وهناك مؤشرات إلى أن الاقتراح ذاته كان ضمن أفكار إسرائيلية نقلت إلى الجانب الأميركي منذ أسابيع في محادثات بينهم حول مرحلة ما بعد العمليات العسكرية في غزة، خصوصاً مع سابق شكواها من التهريب من سيناء عبر الأنفاق، ورغبتها الآن في السيطرة على ممر فيلادلفيا الموازي للحدود المصرية.
هناك تقديرات بأن المبادرة الأميركية تحقق رغبة إسرائيلية في تخفيف أي دور لمصر على مداخل غزة، والضغط على مصر للحد من دورها في النزاع العربي- الإسرائيلي عامة، خصوصاً مع دعمها لحل الدولتين، إذ إن غيابها يحد من فاعلية أي تحرك فلسطيني أيضاً، وارتباطاً بذلك هناك من يرى أن الولايات المتحدة لا تعارض تأمين مداخل قطاع غزة ومخارجه ووضع غالبيتها أو كاملة تحت السيطرة الإسرائيلية مع الاتفاق على ترتيبات معينة، من منطلق أن النزاع في القطاع سيمتد وأن استعداد العالم العربي أو أطراف دولية للإسهام في إدارة غزة لن يتحقق قريباً، لذا من الأفضل تمكين إسرائيل من السيطرة أمنياً ما دام أنها سمحت بإدخال المساعدات الإنسانية، ومن منطلق أن هذه الترتيبات ربما تخفف كذلك من التوترات الإسرائيلية- المصرية على الحدود وتحافظ على اتفاق السلام المصري- الإسرائيلي، وهو هدف أميركي استراتيجي.
وبصرف النظر عن الدوافع الحقيقية من هذا الاقتراح، مما لا شك فيه أنه يحظى بموافقة الجانبين الإسرائيلي والأميركي، حتى إذا لم تكن أهدافهما متطابقة لأنه يوفر مدخلاً آمناً للمساعدات الإنسانية تحت غطاء أميركي وإنما عبر السيطرة الإسرائيلية، فأكد مسؤولون أميركيون في تصريحاتهم أن المبادرة لا تشمل وجوداً عسكرياً أميركياً إضافياً في غزة، ومن ثم يبرز الدور الإنساني بغية تحسين صورتها أمام الرأي العام العالمي والأميركي، في مرحلة يتعرض فيها الرئيس بايدن لانتقادات شديدة من الأميركيين من أصل عربي والتيار التقدمي في الحزب الديمقراطي.
ومما يؤكد سابق موافقة الطرفين على هذه المبادرة ووجود اتفاقات مسبقة في شأنها أنه في أعقاب إعلان بايدن عن هذا المشروع شرعت الولايات المتحدة سريعاً في تكليف سفنها العسكرية والمتخصصة في مثل هذه المشاريع التحرك والانتقال نحو موقع الرصيف المستهدف إنشاؤه، كما ليست مصادفة أن الرئيس الأميركي أعلن هذه الخطوة بعد أيام قليلة من استقباله وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس في واشنطن، مما يعكس أن وزارة الدفاع الإسرائيلية موافقة عليها.
وأهمية هذه الملاحظة من شقين، أولهما أن إسرائيل لم تفاجأ بالمشروع الأميركي، مما يرفع عن بايدن أي حرج أو انتقادات من مؤيدي إسرائيل في الولايات المتحدة، وثانيهما أن التحرك الأميركي في هذا المجال لا يعكس تفاهمات أو تقارب مع نتنياهو، وكان حضور وزير الدفاع الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة من دون تكليف أو إذن من رئيس الوزراء الذي لم توجه له الدعوة إلى زيارة العاصمة الأميركية منذ تولي بايدن الرئاسة عام 2021، وهي رسالة أميركية جديدة تؤكد فيها دعمها لإسرائيل مع الابتعاد من نتنياهو والضغط عليه.
وتزامنت مع الاقتراح تسريبات إعلامية منسوبة للرئيس الأميركي مباشرة أنه أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنهم على مشارف وقفة صريحة وفاصلة معه شخصياً، وتلى ذلك تراشق إعلامي مباشر بين رئيس وزراء إسرائيل والرئيس الأميركي، ولم يتردد نتنياهو في التصريح علناً وبصورة مباشرة بأن الرئيس الأميركي يخطئ في قراءته وتقديرات الموقف في ما يتعلق بأهمية وضرورة بدء عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة في جنوب قطاع غزة وفي منطقة رفح تحديداً، ثم أعلنت تل أبيب منذ أيام قليلة أن رئيس الوزراء وافق على خطة العمليات العسكرية في رفح، وجاء ذلك بالتوازي مع إيفاد إسرائيل وفداً إلى قطر لمواصلة التفاوض حول اتفاق الإفراج عن الرهائن.
على المستوى الشخصي استقبلت إعلان الرئيس الأميركي ببناء الرصيف بمزيج من الترحيب الفاتر والاستغراب القلق في آن واحد، فمن ناحية أشجع أي جهد إضافي لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني في غزة، وأعتقد بأنه مع تشغيل الرصيف لن تستطيع إسرائيل إطالة الترتيبات الأمنية المعرقلة لإدخال المساعدات عبر هذا الرصيف بالذات، هذا أفضل وأقوى، وإنما كان ترحيبي فاتراً مصحوباً بالاستغراب لأن شعب غزة يتعرض الآن للمجاعات وظروف غير إنسانية قاسية، والحديث عن مبادرة طاقتها عملياً أقل بكثير من حاجات مواطني القطاع وتستغرق أشهراً لتنفيذها لا يلبي الطلب أو الحاجات الإنسانية العاجلة.
شعرت بالقلق من المبادرة خشية أن يركز الجانب الأميركي على هذا المشروع حصرياً، بدلاً من زيادة الضغط على إسرائيل لتخفيف معوقاتها للمساعدات الإنسانية من معابر مختلفة، خصوصاً رفح، ولتأمين سماح إسرائيل بالعمل الآمن للجمعيات الخيرية والمنظمات الدولية المعنية بإيصال المساعدات إلى مختلف المناطق في القطاع، وتوزيعها على المواطنين من دون أخطار على حياة العاملين أو المواطنين لأن مشكلات التوزيع الآمن صعبة ومتعددة وخطرة، وأعلنت منظمات إنسانية عدة أنها جمدت أو أوقفت عملها في القطاع لتعذر تأمين العاملين في المجال الإنساني.
ومع ترحيبي بأي إسهام إنساني يخفف من معاناة الشعب الفلسطيني في القطاع، أشعر أيضاً بمزيد من القلق، فإن التزمت الإسرائيلي عامة، وبما يتجاوز رئيس الوزراء وبعض حلفائه من أقصى اليمين، وضعف المواءمات السياسية الدولية للمجتمع الدولي خصوصاً بين أصدقاء إسرائيل، يجرفنا نحو التعامل الإنساني مع قضية الحرب على غزة وإغفال العنصر العسكري والسياسي الجوهري المرتبط باحتلال إسرائيل للقطاع والضفة الغربية.
وأخشى من التركيز على المسار الإنساني والقبول الضمني باستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية أو الاحتلال الإسرائيلي للقطاع مرة أخرى، وعلى حركة “حماس” وقطر ومصر أخذ ذلك في الاعتبار ضمن مفاوضات الإفراج عن الرهائن المحتجزين ووقف إطلاق النار، كما على المجموعة العربية المصغرة التي استضافتها السعودية أخيراً لمتابعة الموقف، وتشمل مصر والأردن وفلسطين والإمارات وقطر والتي تركز على المرحلة المقبلة بعد وقف إطلاق النار في اتصالاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وعلى الأطراف العربية جميعاً، إعطاء الأهمية القصوى لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني في غزة، مع عدم الوقوع في فخ تثبيت الأمر الواقع، والتمسك بأن إنهاء دائرة العنف والعنف المضاد لا يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتمكين الفلسطينيين من ممارسة حقوقهم الوطنية المشروعة.