سعى الرئيس التونسي قيس سعيد إلى طمأنة مواطنيه بأن سنة 2025 ستكون سنة الحلول لمختلف المشكلات التي تواجه البلاد. لكن حديثه عن أن الوحدة الوطنية صمام أمان “تتكسّر على جدارها كل المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار” أثار التساؤلات حول وجود مخاوف رسمية من تأثيرات التغييرات الإقليمية على الوضع في تونس.
لا شك أن السلطة التونسية تتحسب لما قد يقع في ظل تشابكات خارجية يمكن أن تعمل على تحريك الفوضى في أي بلد بالإقليم، والأمر لا يقف فقط عند تونس. وهو خوف صار يشعر به أكثر من بلد وعبر عنه مسؤولون على مستوى عال مثلما هو الأمر في الجزائر وليبيا ومصر.
لكن هل أن التخوفات في تونس لديها ما يسندها على أرض الواقع؟ الأمر يبدو مبالغا فيه لأن تونس شهدت “ربيعا” في 2011 وخرجت منه البلاد بنتائج مهمة إن كان الأمر لدى السياسيين أو لدى الشارع. الثورات لا تتكرر كما أنها لا تشبه اللعبة التي يلهو بها الطفل ثم يطلب غيرها فيحصل عليه مرارا.
تشير الحقيقة الموضوعية إلى أن الشروط الموضوعية في تونس لا تتحمل أي حراك جديد حتى وإن كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي ملائما أو مساعدا على الاحتجاجات. لقد أحدثت ثورة 2011 صدمة يصعب تجاوزها لدى مختلف مكونات الشعب التونسي.
تركت الثورة، التي رفعت الكثير من الشعارات والوعود الحالمة، ندوبا كثيرة أبرزها أنها صنعت الفوضى وهزت الاستقرار وضربت الدولة بقطع النظر عن التأويلات من وراء فشلها ومن يتحمله هل الوافدون الجدد إلى السلطة، الذين لم يكونوا يمتلكون الحد الأدنى من الكفاءة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، أم الثورة المضادة التي قادتها الدولة العميقة بأذرعها المتنوعة، الصلبة والناعمة.
من الصعب أن يستجيب الشعب في المرحلة الراهنة لدعوات التظاهر أو الاحتجاج في الوقت الذي اقتنع فيه بأن الثورة هي السبب المباشر لأزماته الاقتصادية والاجتماعية، وأن الديمقراطية، بالصورة التي قدمت له خلال عشر سنوات، تضر بعيشه ولا تفيده.
إقرأ أيضا : القواعد العسكرية الروسية خارج الحدود ..عنصر من عناصر المنافسة الدولية
ثم إن الأحزاب نفسها لم تعد تقوى على خوض حراك جديد لأن “الربيع” السابق ولعبة الديمقراطية الصورية وماراثون الانتخابات والصراعات في البرلمان لم تترك لها ما به تقابل الناس وتحكي معهم وتعدهم، وحتى أنصارها فشلت في إقناعهم، وهو ما يفسر موجة الاستقالات والانشقاقات والانسحاب من الحياة العامة لدى الكثير من قادتها ومنتسبيها، كما حصل داخل حركة النهضة الإسلامية.
ولم يعد اتحاد الشغل، الذي لعب دورا في إنجاح “ربيع” 2011، هو الاتحاد القديم، فهو يشهد صراعات وخلافات وتراجعا في التأثير داخل المنظمة نفسها فكيف يمكنه أن يلعب دورا ما في تحريك الشارع، حتى وإن أوحى بعض قادته بذلك فلا يعدو الأمر أن يكون مجرد تنفيس.
كما أن السلطة الحالية وضعها يختلف عن وضع سلطة ما قبل 2011 كليا، وهي تستفيد من كل ما تقدم لتمنع تحريك الشارع، الذي لا يزال في صفها إلى حد الآن، ويثق بأنها قادرة على مداواة جراح المرحلة السابقة على المستوى الاقتصادي. حسابات الشعب غير حسابات السياسيين. يمكن للسياسي أن يجد عشرات الثغرات في نقد الخصوم بما في ذلك السلطة، لكن ما يهم الشارع هو من يقدر على خدمته ومن الأقرب إلى ذلك.
يبقى أن التوجس الذي يقلق دول الإقليم، ومن بينها تونس، هو محاولة صناعة “ربيع مسلح” على طريقة ما جرى في سوريا عن طريق إعادة إنتاج هجوم بن قردان في 7 مارس 2016 بتوظيف مسلحين متشددين تونسيين شاركوا في الحروب بليبيا وسوريا وعملوا لفائدة أجندات أجنبية.
هذه الفرضية أيضا ضعيفة ومستبعدة لأن تقاليد التغيير السياسي في تونس تستبعد هذا الأسلوب الذي يتعارض مع خصائص البلاد، كما أن فرص تنفيذه صعبة وأي محاولة من هذا النوع ستكرر الفشل نفسه الذي مُني به هجوم بن قردان قبل سنوات في ظل يقظة أمنية وسياسية كاملة على عكس هجوم بن قردان، الذي راهن على عامل المفاجأة.
وفي ظل كل ما سبق، يبدو حدوث تغيير من خارج إرادة السلطة أمرا مستبعدا. لكن يظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي هو العنصر الذي تخشاه السلطة وتسعى إلى مواجهته في سنة 2025، التي ستكون سنة مهمة لقياس مدى قدرتها على تنفيذ وعودها. كما أن السلطة أخذت ما يكفي من الوقت لخوض الحرب على الفساد ومواجهة من تعتبرهم قوى تخريب وعرقلة واحتكار، والناس تفهموا موقفها وصبروا إلى حين تحقيق ما تريده.
ومن المفيد الإشارة إلى أن مقاربة السلطة للدولة الاجتماعية تكسبها شرعية قوية لدى الفئات الاجتماعية الضعيفة ومحدودة الدخل، وهي فئات ذات وزن شعبي، وتحصر التفكير في الاحتجاج، نظريا، في دائرة العمال والموظفين والفئات الشبابية. وليس ثمة ما يشير إلى أن هذه الفئات قد تسير في مسار الاحتجاج، والأمر مفهوم وهو نتيجة لمخلفات مغامرة الاحتجاج الذي تحول إلى فوضى في السنوات التي تلت الثورة.
لكن السلطة لا تستطيع أن تكتفي بكسب ثقة فئات معينة ولو كانت ذات وزن ثقيل، وهي مدعوة في سياق تحقيق مقولة الوحدة الوطنية إلى الانفتاح على الشرائح الأخرى، التي لا تتحمل عبء الخيارات الاقتصادية والمالية للمرحلة الجديدة مع زيادة الضرائب لتطال طيفا واسعا من المهن.
ولعل من المهم، هنا، أن تفتح حوارا أكبر وأكثر ودا مع رجال الأعمال وأن تبحث عن صيغ أكثر مرونة في موضوع الصلح الجزائي بأن تحافظ على حق الدولة وتحفظ استمرار مصالح رجال الأعمال وأنشطتهم؛ فهم قوام الاقتصاد فعليا خاصة مع الضعف الذي يعتري المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية.
تعرف السلطة أن سنة 2025 ستكون صعبة ومهمة في تحديد مسار المرحلة الجديدة، ولذلك من المهم أن توحد جهود كل القوى والأطراف الفاعلة اقتصاديا وماليا وتجعلهم في صفها ليكونوا ضمانة لإنجاح سياسة الاعتماد على الذات، التي لا شك أن المقصود بها توظيف القدرات التونسية مجتمعة في مواجهة الصعوبات، وعلى رأسها مسألة التمويلات الخارجية المشروطة.
منذ يوليو 2021 إلى الآن تمت إعادة تشكيل النظام السياسي حسب ما أراده الرئيس سعيد، وجرت انتخابات متعددة وتم إنشاء هياكل ومؤسسات لدعم النظام الجديد. والآن لا شيء يمنع من بدء الإصلاح الاقتصادي الذي سيكون الاختبار الحقيقي للسلطة وأفكارها، التي من بينها القطيعة مع صندوق النقد وتنفيذ الإصلاحات وفق أجندة داخلية ودون توجيه من جهة خارجية أيا كانت.
ومن الأسئلة الملحّة التي تحتاج إلى الإجابة عنها: هل أن المشكلة مع الإصلاحات تكمن في وجود صندوق النقد أم في الإصلاحات ذاتها، خاصة موضوع الدعم وإصلاح الشركات الحكومية؟ وهل لدى الحكومة خطط واضحة لحل مشكلة الدعم من دون زيادة الأعباء على الدولة التي تكافح لتحصيل القروض من الداخل والخارج لتأمين سير خططها؟
وبالمجمل، فإن مخاوف الرئيس سعيد، التي أوحت بها كلمته الخميس، لا تتعلق بتحديات تستهدف السلطة في حد ذاتها، وإنما يخشى العام الجديد لكونه اختبارا حقيقيا لأداء الدولة وبرامجها ومصداقيتها لدى الشارع الذي لا يزال يراهن على أنها قادرة على تحسين ظروف حياته.