«ربيع بيروت».. ما زال لبنان يقاوم
ما زال لبنان يقاوم. لم يستسلم بعد أمام قتلة سمير قصير. لم تستسلم جيزيل يوماً حتى في ذروة مرضها، بل كانت تفكّر دائماً في استمرار مهرجان "ربيع بيروت".
غابت جيزيل خوري، خطفها منّا المرض قبل أقلّ من عام. بموت جيزيل، لم يمت مهرجان “ربيع بيروت” الذي كانت وراءه تلك المرأة الصلبة المقاومة التي تثير الإعجاب بمدى وفائها وقدرتها على المثابرة وتذليل الصعوبات. لم تتوقف جيزيل يوماً منذ اغتيال زوجها، ومع قصة حبّ لسمير قصير، عن تجسيد القدرة اللبنانية على مواجهة ثقافة الموت. قاومت المرض بشجاعة أعواماً عدّة، وقاومت ثقافة الموت في كل عام من أعوام عمرها.
في عام 2008، أطلقت جيزيل “ربيع بيروت” كي يبقى سمير قصير حيّاً في الذاكرة اللبنانية والسورية والفلسطينية في آن. فوالد سمير فلسطيني وأمه سورية. أطلقت جيزيل المهرجان وفاءً لبيروت أيضاً، المدينة التي احتضنتها كما احتضنت سمير قصير بذكائه المتقد. في عام 2024، يستمرّ “ربيع بيروت” على الرغم من أنه بات حلماً صعباً. عمل قتلة سمير قصير في 2 حزيران (يونيو) 2005 على قتل هذا الحلم وتدميره بتدمير بيروت وكل ما ترمز إليه عودة الحياة إلى إحدى أجمل المدن على المتوسط وأكثرها حياة والتصاقاً بكل ما هو حضاري في هذا العالم. ومجرّد وجود من يعمل من أجل بقاء “ربيع بيروت” حيّاً يُرزق يعكس تلك الرغبة لدى أصدقاء جيزيل وسمير في بقاء حلم “ربيع بيروت” حيّاً.
قاوم سمير قصير بكتاباته ثقافة الموت، وقاومت جيزيل بالوفاء للمبادئ التي عمل من أجلها سمير ثقافة الموت نفسها، التي تعمل يومياً على القضاء على لبنان وتهجير اللبنانيين. يشعر الإنسان ببعض الأمل عندما يكتشف أن المجموعة التي أحاطت بجيزيل ما زالت تؤمن بأن الحلم لم ينتهِ بغياب سمير وجيزيل، وأن ثمّة إصراراً على التمسّك بهذا الحلم الذي أراد قتلة سمير الإنتهاء منه… ومن رموزه كلهم.
تكفي استعادة لائحة بأسماء الذين اغتيلوا منذ عام 2005 للتأكّد من فعل المقاومة الحقيقي الذي يتمثل في المحافظة على بيروت التي أعاد رفيق الحريري إليها الحياة، تمهيداً لإعادة الحياة إلى لبنان كلّه… وإلى ما هو أبعد من لبنان.
ليس صدفةً أن يكون سمير قصير أوّل ضحية لعمليات الاغتيال بعد تفجير رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط (فبراير) 2005. فقد دفع من دمه ثمن دوره في “ثورة الأرز” في مرحلة ما بعد اغتيال الحريري ورفاقه، وعلى رأسهم باسل فليحان. ليس سرّاً أن القتلة كانوا يعرفون تماماً ماذا يفعلون. فاغتيال سمير قصير ثم جبران تويني كان استهدافاً مباشراً لـ “النهار”، المؤسّسة الصحافيّة التي مثّلت، بصفتها جريدة رائدة في المنطقة العربية كلها، رمزاً من رموز بيروت وعودة الحياة إليها. من سمير قصير إلى محمد شطح ولقمان سليم، مروراً بكل من تعرّضوا للقتل، كان هناك إصرار على التخلّص من أشخاص محدّدين وضعوا أنفسهم في خدمة لبنان، مثل بيار أمين الجميّل. كان مطلوباً قتل المدينة وقتل لبنان، وصولاً إلى الانهيار الحالي الذي يجسدّه ربط مصير لبنان بمصير غزّة التي دمرّها الوحش الإسرائيلي عن بكرة أبيها.
تحيّة لكل من حافظ على مهرجان “ربيع بيروت” في غياب جيزيل خوري، وفي ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنها غاية في الصعوبة والتعقيد. تحيّة لكل من بقي مقاوماً على الرغم مما تعرّض له، مثل الزميلة مي شدياق، الشهيدة الحيّة التي ترفض الاستسلام. لا بدّ من المحافظة على بصيص أمل باستعادة لبنان، على الرغم من كل ما تعرّضت له بيروت، وعلى الرغم من الاستهداف المباشر لكل مؤسسة أو قطاع لبناني في أي مجال من المجالات.
في ضوء كل ما تعرّض له هذا البلد، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه في نهاية المطاف: “أما زال لبنان قابلاً للحياة؟”. يصعب الاعتراف بأن الأمل بات مفقوداً، وبأن الحلم اللبناني انتهى بعدما استطاعت إيران وضع يدها على البلد، بدليل امتلاكها قرار الحرب والسلم فيه، وفتحها جبهة الجنوب بالطريقة التي فتحتها بها. لم يأتِ وضع اليد الإيرانية على لبنان من فراغ، بل جرى التمهيد له منذ فترة طويلة بتغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان، وضرب الوجود السنّي، فضلاً عن الانتهاء من الوجود المسيحي بتحويل المسيحيين إلى مجرّد غطاء لسلاح “حزب الله”، وهو الدور الذي لعبه ميشال عون باتقان ليس بعده اتقان.
ما زال لبنان يقاوم. لم يستسلم بعد أمام قتلة سمير قصير. لم تستسلم جيزيل يوماً حتى في ذروة مرضها، بل كانت تفكّر دائماً في استمرار مهرجان “ربيع بيروت”. شعرتُ بذلك في لقائنا الأخير في عمان، حين حضرنا حفل الاستقبال الذي أقيم قبل عام لمناسبة زواج الأمير حسين بن عبدالله، وليّ العهد الأردني. أسرّت إليّ جيزيل بأن همّها الآن هو استمرار مهرجان “ربيع بيروت”، بموسيقاه وغنائه وفنّه ومسرحه وسياسته، وبكل ما له علاقة بثقافة الحياة.
لم يخذل رفاق جيزيل سمير قصير، مثلما لم تخذله جيزيل يوماً، من اغتياله في عام 2005 حتى وفاتها شجاعةً في عام 2023. توفيت جيزيل منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بعدما أكّدت يومياً، طوال 18 عاماً، عمق وفائها لسمير قصير، صاحب كتاب “تاريخ بيروت”. لقد أكّدت وفاءها لبيروت وللبنان الذي أحبته ورفضت مفارقته يوماً. كانت شجاعةً كريمة النفس، بكل ما في كلمة كرم من معنى. لم يبخل عليها رفاقها بشيء. جاء استمرار مهرجان “ربيع بيروت” ليؤكّد ذلك، وليؤكّد خصوصاً أنّ ثمة لبنانيين بعدُ يؤمنون بلبنان، وبعودته يوماً، وبثقافة الحياة التي لا بديل عنها.
غابت جيزيل خوري ولم يغب “ربيع بيروت”. مرّة أخرى، تحية صادقة وشكر كبير لمن حافظ على ذكرى سمير وجيزيل في هذا الزمن البائس، الذي عمل سمير قصير على تغييره طوال حياته القصيرة.