لطالما أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب التصريحات النرجسية والجدلية بشأن قدراته على التغيير، سواء على الصعيد الداخلي بجعل أمريكا أولًا، أو على الصعيد الخارجي واصفًا نفسه بأنه المخلص للعالم من الحروب والنزاعات التي خلفتها إدارة سلفه جو بايدن. انتقد ترمب -بأشد العبارات وأقساها- سياسة بايدن، خاصة في ملفي الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مطلقًا كثيرًا من الوعود في حملته الانتخابية نحو تحقيق المعجزات السياسية، أولها وقف الحرب في قطاع غزة، وثانيها وقف الحرب الروسية الأوكرانية خلال (24) ساعة من تسلمه مقاليد السلطة في البيت الأبيض. إن إصرار ترمب على وقف الحرب الروسية الأوكرانية، وما يقلق أوروبا، يتمثل في أن تخرج روسيا منتصرة من هذه الحرب. وقد صدق ترمب في الوعد الأول فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، ولكنه أخفق في الوعد الثاني بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية خلال (24) ساعة من توليه السلطة، إضافةً إلى نجاحه في إصدار عدد من القرارات التنفيذية فيما يتعلق بالوضع الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية.
تعقيدات الحرب الروسية الأوكرانية
تشكل أوكرانيا أهمية إستراتيجية وفقًا للمنظور الروسي والأمريكي في آن واحد، من الناحية الجيوستراتيجية؛ إذ تشكل مجالًا حيويًّا للبعد الأمني الروسي، إضافةً إلى أن شرق أوكرانيا من الناحية العرقية تقطنه أغلبية روسية، حيث يشكل الروس نحو 17% من سكان أوكرانيا، إضافةً إلى تداخل العوامل الثقافية والتاريخية بين الدولتين. ومن المنظور الأمريكي، تشكل أوكرانيا سدًّا منيعًا بين دول الناتو وروسيا، وبقاء أوكرانيا قوية يشكل دعامة أساسية للأمن القومي الأوروبي، ولدول حلف الناتو، وأهمية جيوسياسية من أجل محاصرة روسيا، إضافة إلى الأهمية الاقتصادية؛ إذ تشكل المواني الأوكرانية طريقًا للأوروبيين للدخول إلى البحر الأسود.
تختلف الحرب الروسية الأوكرانية عن باقي الصراعات في العالم بسبب تعقيدات المشهد، والمتغيرات والارتدادات المنبثقة عنها على النظام الدولي برمته، فهي ليست حربًا تقليدية بين دولتين فقط؛ وإنما صراع بين معسكرين: نظام دولي سائد تمثله الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وروسيا بوصفها دولة طامحة إلى تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب، وساحة هذا الصراع هي أوكرانيا، فهي أزمة متشابكة ومعقدة، تتداخل فيها عوامل دولية وإقليمية ومحلية وجغرافية وتاريخية ودينية وثقافية ولغوية، وروسيا في طريقها نحو استعادة قوتها العالمية والدولية.
إن تصميم روسيا على تحقيق مكاسب عسكرية وسياسية من هذه الحرب يجعل من الصعوبة التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب بسهولة، فما زال الموقف الروسي ثابتًا نحو مطالبه التي أطلقها قبل بداية الحرب، وإضافة إلى السيطرة الميدانية على الأرض يكسبها قوة في عدم التراجع أو التنازل عن مطالبها، سواء أكانت حيادية أوكرانيا، أم عدم انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، وفي الوقت نفسه تستمر أوكرانيا في موقفها بالمطالبة بعودة الأمور إلى ما كانت علية قبل الحرب، وتكثف جهودها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
إقرا أيضا : وقف المساعدات عن أوكرانيا يكشف عن موقف ترمب المناهض للغرب
مسارات الحرب الروسية الأوكرانية
تعد الحرب الروسية الأوكرانية من أخطر الأزمات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة، فهي تهدد بنشوب مواجهة عسكرية بين روسيا والقارة الأوروبية وزعزعة النظام الدولي القائم منذ الحرب العالمية الثانية، وقد تكون مقدمة حقيقية لنشوء نظام دولي متعدد الأقطاب. من جانب آخر، أعادت الحرب الروسية الأوكرانية الحديث مجددًا عن مفهوم الأمن الأوروبي، وهذا يعد عاملًا آخر من عوامل استعصاء الحل والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في أوكرانيا؛ إذ إن الأمن المتعدد الجوانب لا يقتصر على القوة العسكرية، بل يتعدى ذلك إلى القوة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضًا، في ظل تداخل المصالح بين الدول، وتعقيدات تلك الحرب؛ لأنها الحرب الأولى بعد الحرب العالمية الثانية التي تستخدم فيها تلك الأنواع من الأسلحة وهذه الأعداد من الجيوش، ويتداخل فيها كثير من العوامل، مثل العوامل الجغرافية والتاريخية والثقافية والهوياتية، وهذا النوع من الحروب والنزاعات يعد من أكثر النزاعات تعقيدًا واستعصاءً على الحل، أضف إلى ذلك أن ساحة تلك الحرب هي الأراضي الأوكرانية، ولكن فواعلها تمتد إلى البعد الأوروبي والعالمي أيضًا.
على الرغم من التصريحات الجدلية للرئيس ترمب عن الحرب الروسية الأوكرانية، فإن نهاية تلك الحرب تبدو بعيدة المنال، فلا يوجد مؤشر واضح في مسار الحرب نحو النهاية، وهذا يُستشف من مواقف الأطراف نحو التصعيد الميداني العسكري استنادًا إلى الأهداف الإستراتيجية المعلنة لكل طرف، فالإصرار الروسي على حماية الأمن القومي يواجه بتعنت أوكراني بضرورة عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 24 فبراير (شباط) 2022م بعودة الأراضي الأوكرانية كاملة إلى الدولة الأوكرانية، وهذا ما يبدو أنه أصبح شبه مستحيل في ظل الانتصارات التي حققها الجيش الروسي منذ بداية الحرب.
إخفاق ترمب في إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية كما وعد
لقد أخفق ترمب في وقف الحرب الروسية الأوكرانية خلال (24) ساعة من توليه السلطة في البيت الأبيض كما وعد في دعايته الانتخابية، وهذا يعود إلى عدة عوامل، أهمها أن روسيا دولة محورية في العالم، تمثل قطبًا دوليًّا إستراتيجيًّا في قوتها العسكرية والسياسية، ولها قرارها المستقل، فلا يستطيع ترمب أن يملي على روسيا أي شروط بوقف الحرب، بل إن قرار روسيا وقف الحرب ينبع من المصالح القومية للدولة الروسية بوصفها دولة ذات سيادة، ولها قرارها المستقل، فتلك الحرب جاءت ضرورةً حتمية لصد الهجوم الغربي على الدولة الروسية بهدف إضعافها، وخلق تهديدات مباشرة لأمنها القومي من خلال أوكرانيا، وهنا يتجلى رفض الغرب للنظام الدولي المتعدد الأقطاب، ولقد أصبح هناك الآن واقع جديد في العالم، وعلى الغرب أن يعترف به بكل وضوح، وأن يتوقف عن إملاءاته التي فرضها على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبناء على ذلك، لن ترضخ روسيا لأي ضغوط من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مهما كانت، دون أن تأخذ في الحسبان مصالح الأمن القومي الروسي، والتهديد الذي تمثله أوكرانيا على أمنها، فروسيا التي تمثل قطبًا دوليًّا له استقلاليته وسيادته، وتتمتع بقوة عسكرية واقتصادية مؤثرة، لن تسمح لترمب بفرض إملاءات أو ضغوط عليها كما فعل مع إسرائيل في وقف الحرب على قطاع غزة، فمن الطبيعي أن نرى إخفاقًا أمريكيًّا في هذا الملف، ليس في هذه الفترة فقط؛ بل قد يمتد إلى شهور، وربما سنوات، إذا لم تؤخذ المطالب الروسية في الحسبان في أي مقترح أو خطة لوقف إطلاق النار بين الدولتين.
تحذيرات لروسيا ووقف المساعدات عن أوكرانيا
أطلق الرئيس ترمب جملة من التحذيرات إذا لم تتوقف الحرب الروسية الأوكرانية، مهددًا بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا إذا رفضت وقف الحرب في أوكرانيا، متمثلة في فرض مزيد من الرسوم الجمركية على السلع والبضائع الروسية، إضافة إلى عقوبات أخرى لم يفصح عنها، مدعيًا أنه من خلال هذا الضغط لحل الأزمة يقدم خدمات جليلة لروسيا، وتجاهلت الدولة الروسية تلك التصريحات، وفي الوقت نفسه كان موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دائمًا مع خيار المفاوضات، ولكنه يشترط على حكومة أوكرانيا الاعتراف بالإنجازات التي حققتها روسيا على الأرض، وخاصة السيادة الروسية على المقاطعات التي أعلنت انضمامها إلى روسيا، والتي تقدر مساحتها بنحو (20)% من مساحة أوكرانيا، وعدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وإجبارها على الحياد الدائم.
من جانب آخر، انتقد الرئيس ترمب الدعم المالي والعسكري الذي قدمته إدارة الرئيس بادين لأوكرانيا، قائلًا: “لا مليارات لأوكرانيا مجددًا”، وأكد أن الخسائر البشرية في تلك الحرب لم تُنشر وفق الحقائق من كلتا الدولتين؛ فروسيا فقدت نحو (800) ألف جندي، وأوكرانيا خسرت نحو (700) ألف قتيل.
اجتماع مرتقب بين بوتين وترمب وملفات كثيرة تنتظر الحسم
أدلى ترمب بتصريحات مثيرة في منتدى دافوس الاقتصادي، إذ قال إنه يريد الاجتماع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أقرب وقت ممكن لإنهاء الحرب التي تزهق أرواح الأبرياء في أوكرانيا، مضيفًا أن الرئيس الأوكراني زلينسكي مستعد للتفاوض أيضًا، إضافة إلى ملفات أخرى يجب البحث فيها، وأهمها خفض الأسلحة النووية في العالم، مبديًا تفاؤله بأن بوتين يدعم هذا التوجه.
الخطة المقترحة
ظهرت بعض التسريبات بشأن رؤية ترمب لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية خلال (100) يوم، التي تتلخص في منع انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وإعلانها دولة محايدة، والاعتراف بالسيادة الروسية على الأراضي التي سيطر عليها الجيش الروسي في شرق أوكرانيا، ورفع العقوبات المفروضة على روسيا خلال ثلاث سنوات بناء على التزامها بالاتفاق، وإزالة القيود على مصادر الطاقة الروسية، مع إمكانية فرض بعض الرسوم الجمركية عليها من الاتحاد الأوروبي، في مقابل الموافقة على انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2030م، وإعادة إعمار أوكرانيا بموجب مؤتمر دولي يُنظَّم لإعادة الإعمار، واستمرار الولايات المتحدة الأمريكية في تقديم الدعم العسكري لها.
الخلاصة
إن رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية هي رؤية تنبع -بالدرجة الأولى- من المصالح الإستراتيجية الأمريكية، ولكن الرؤية والتمنيات شيء، والتنفيذ الفعلي لتلك الرؤية شيء آخر، فروسيا دولة محورية في العالم، وطامحة إلى إعادة أمجادها القيصرية والسوفيتية بإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، وهي تمتلك إمكانات عسكرية واقتصادية وبشرية وتاريخية وثقافية قادرة على أداء دور محوري ومؤثر على الصعيد الدولي، وإنهاء الاحتكار الأمريكي للهيمنة على العالم، فالانتصار الروسي في هذه الحرب هو الخطوة الأولى في تغيير المعادلات والموازين الدولية والإقليمية. ورؤية الرئيس ترمب لإنهاء الحرب لن تتحقق إلا بضمان المصالح الروسية، والمحافظة على الإنجازات التي حققها الجيش الروسي منذ بداية الحرب، إذ يعمل فريق ترمب على إعداد خطة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية لتُعرَض وتُعلَن في اللقاء المرتقب بين الرئيسين ترمب وبوتين مستقبلًا، وإذا صحت تلك التسريبات عن الخطة، وأُخذت المطالب الروسية بعين الاعتبار؛ فقد تحقق نجاحًا كبيرًا. وكما يبدو، فإن إستراتيجية ترمب في التعامل مع الأزمات الدولية تقوم على المفاوضات والعقوبات والصفقات، وهناك مصلحة أمريكية في وقف تلك الحرب من خلال وقف المساعدات الأمريكية العسكرية لأوكرانيا؛ مما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الأمريكي. وإذا أراد ترمب أخذ المصالح الأوروبية والأوكرانية في الحسبان وفق رؤيته في إنهاء الحرب، فإنه سوف يفشل فشلًا ذريعًا في وقف الحرب؛ لأن روسيا لن تتقبل نصف انتصار؛ بل تسعى إلى انتصار كامل، على صعيد التأثير في المستوى الدولي بوصفها دولة فاعلة ومؤثرة في العالم، وفرض نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.