منذ عام 2018، يكرر محللون أميركيون في شؤون الدفاع توصيفهم للصين بأنها التهديد الأكبر لأمن الولايات المتحدة القومي. وهم وضعوا توصيفات متنوعة لبكين باعتبارها “التحدي الشامل” و”الخطر المتسارع” وحتى “الخصم القرين” إزاء الولايات المتحدة، وذلك نظراً إلى الإعداد العسكري الصيني الشامل، ولسلوك بكين العدواني في آسيا والمحيط الهادئ، وحملتها الدولية الكبرى لفرض شروطها الاقتصادية في كل مكان. وتشير هذه التوصيفات الغامضة والضبابية إلى إجماع متنام يرى في طموحات الصين تهديداً كبيراً للمصالح القومية الأميركية. لكن في المقابل يغيب الإجماع تجاه دوافع خطوات الصين في هذا الإطار، خصوصاً الخطوات المتعلقة بإعدادها المتزايد في مجال الأسلحة النووية.
إذ إن أوساط الدفاع الأميركية تنظر إلى هذا الإعداد عموماً من منظور عسكري ضيق، فيبقى همها محصوراً بالقدرات العسكرية والتوازن في إطار سباق التسلح. إلا أن مقالة نشرت خلال الآونة الأخيرة في “فورين آفيرز” كتبها الباحث تونغ جاو قامت بتوسيع إطار التحليل، من خلال عدم اقتصار وصف ترسانة الصين النووية بأنها أداة قسرية لتحقيق تطلعات عسكرية محددة جداً، بل عبر النظر إلى هذه الترسانة كرمز للقوة القومية التي تمكن بكين من اكتساب احترام الولايات المتحدة كلاعب أساس على مسرح الأحداث العالمي، بيد أن كل فهم لهذا التوسع النووي يجب أن يأخذ في عين الاعتبار نيات الصين التعديلية.
فالصين لديها طموحات كبرى لإعادة تكوين العالم على صورتها. وهي تعتزم القيام بذلك أولاً من طريق الهيمنة على منطقة غرب المحيط الهادئ، من ثم جذب أكثرية مناطق وبلدان أوراسيا –المنطقة التي تمتد من جوار الصين المباشر إلى وسط آسيا وجنوب شرقي أوروبا– وأفريقيا إلى فلكها. لكن أمام الصين في هذا المسار مأزق جغرافي تدركه تماماً، وهو متمثل بعدد من الدول قبالة سواحلها تلتزم بتحالفات مع الولايات المتحدة للحفاظ على الوضع القائم في المنطقة، وتلك تحالفات استدعتها تصرفات الصين نفسها. وإن قامت الصين بالتصعيد عبر الشروع بهجوم كبير على جوارها وأطرافها البحرية، فإنها تخاطر باستدعاء رد فعل منسق وكارثي يطيح مخططاتها الدولية.
وعلى الولايات المتحدة أن تنظر إلى البناء النووي الصيني كأداة تمكن بكين من حل عزلتها القارية. فالصين كانت بدأت حملة إكراه -لم تبلغ درجة الحرب- كي تطيح نظام التحالفات الأميركي في منطقة المحيط الهادئ، وتأتي ترسانتها النووية التي تزداد تطوراً اليوم كي تمنحها مزيداً من القوة والقدرات لتحقيق هذا الهدف من دون إشعال حرب كارثية بين القوى العظمى. وإن فشلت واشنطن في التعامل مع هذا الجانب من الصعود الصيني النووي فإنها تخاطر ربما بموقعها المتقدم في منطقة غرب المحيط الهادئ، إذ تدافع هناك عن بيئة حرة ومفتوحة ومزدهرة ملائمة للمصالح الأميركية.
وعلى واشنطن أن تكون جاهزة ومستعدة أمام هذا الخطر، وأن تفهم المخططات الجيوسياسية التي وضعتها الصين ووسعت ترسانتها النووية من أجلها، والتحرك للحفاظ على التوازن في المنطقة. إذ فيما تشكل حملة الإكراه الصينية تهديداً لحلفاء الولايات المتحدة على واشنطن اعتماد استراتيجية موازية، تركز فيها على المزايا التنافسية للولايات المتحدة مقابل نقاط الضعف المحددة التي تعانيها الصين. فربما تكون الصين بدأت فعلاً في استخدام قوتها النووية كخطوة أولية في مشروعها الأكبر لإعادة تكوين العالم (على صورتها ووفق نموذجها)، إلا أن الولايات المتحدة ما زالت تملك فرصاً لخنق هذه الطموحات العالمية الصينية في مهدها.
الجغرافيا المعقدة
يعتقد الرئيس الصيني شي جينبينغ أنه يقود بلاده إلى حقبة جديدة من الهيمنة الجيوسياسية الصينية. وهو يرى أن الصراع بين الاشتراكية الصينية والرأسمالية الديمقراطية الغربية بات قائماً فعلاً، فيشير إلى الازدهار والتأثير المتناميين لبلده كدليل على استعداد الصين لإزاحة الولايات المتحدة من الصدارة الدولية وإعادة تشكيل العالم. إذ إن هكذا نظام دولي (وفق الرؤية الصينية) سيمثل انعكاساً أكبر لنظام الصين الداخلي، وذلك أكثر من الانعكاس الذي ولدته القيم الليبرالية التي شكلت جزءاً كبيراً من العالم طوال عقود. وشي واثق على نحو خاص من أن التغييرات الهيكلية (في العالم الراهن) تفضل صعود الصين، كما يتضح من أزمة عام 2008 المالية وصعود الحركات الشعبوية في الغرب.
إلا أن جغرافيا الصين تعقد رؤية شي هذه، إذ مثل فرنسا النابليونية خلال القرن الـ19 وألمانيا واليابان والاتحاد السوفياتي في القرن الـ20، تعد بكين نفسها مطوقة بدول ساحلية معادية مدعومة بقوات بحرية دولية. وأيضاً فإن الموقع القاري للصين، كما كان الحال مع أشباهها السابقين –هذا الموقع الذي يكون صورة من صور الحدود البرية-البحرية، التي سماها المحلل الاستراتيجي الهولندي الأميركي نيكولاس سبايكمان خلال القرن الـ20 “الحافة الطرفية” (rimland) الأوراسية– يسهم في زيادة احتمال وقوع حرب كارثية مع الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، تسببها استراتيجية صينية سيئة التنفيذ في هذه المنطقة.
تلك الأمثلة من الماضي مفيدة بالنسبة إلى الاستراتيجيين الصينيين. فالتعديليون الحديثون [الدول التعديلية التي تسعى إلى تغيير النظام الدولي القائم] جميعاً فشلوا في تبديد الأخطار والتهديدات الآتية من أطرافهم البحرية، وعانوا منها. إذ لا فرنسا ولا ألمانيا كانتا على علاقة طبيعية وطيدة مع البحر، وشهدتا التخريب على يد تحالفات آتية من “حواف طرفية” قادتها قوى بحرية دولية. كذلك فإن اليابان الإمبريالية أشعلت حرباً على جبهتين ثبت مدى صعوبتها، إذ قاتل اليابانيون خلال تلك الحرب الجيوش الصينية على البر الآسيوي، وقوات التدخل الأميركية في البحر. كما أن الاتحاد السوفياتي بدوره لم يتمكن في نهاية المطاف من التغلب على خصمه في الحرب الباردة، ذاك الخصم الذي تكون من دول ساحلية (محيطة به) تحت إمرة القوات الجوية والبحرية الأميركية. وبناء على هذه الدروس والأمثلة التاريخية، قررت بكين أنه وقبل التمكن من جذب نطاق كبير من أوراسيا إلى فلكها عليها أولاً تحقيق التفوق في أطرافها، والسيطرة على تلك الأطراف البحرية المكشوفة وإخضاعها.
وبكين في هذا الإطار تعترض على الواقع القائم عند خاصرتها البحرية المحاطة بسلسلتين من الجزر المحتشدة في صورة هلالين، وهي جزر مليئة بالقواعد العسكرية الأميركية وحلفاء الولايات المتحدة. السلسلة الأولى والأقرب إلى الصين تمتد جنوباً من أرخبيل الجزر الألوشية في ألاسكا وتمر عبر اليابان وتايوان نزولاً إلى ما بعد الفيليبين، أما السلسلة الثانية الأبعد شرقاً فتبدأ من اليابان عبر العرين العسكري الأميركي في غوام لتبلغ الأقاصي الأسترالية الشمالية. وترتبط الولايات المتحدة بمعاهدات دفاعية مع أستراليا واليابان والفيليبين وأيضاً مع كوريا الشمالية، الواقعة داخل محيط “الحافة الطرفية” هذه. وتلك الحدود المدعمة أميركياً تغضب الصين وتكبحها منذ الأيام الأولى للحرب الباردة، حين أسهمت شبكة تحالفات ثنائية بين الولايات المتحدة وعدد من الدول في غرب المحيط الهادئ، وهي شبكة على صورة “مركز وفروع”، في إحباط طموحات بكين داخل ذاك الإقليم. حتى إن الولايات المتحدة خلال أعوام الخمسينيات ودفاعاً عن حلفائها هددت بكين بهجوم نووي. وخلال عام 1996 وقت أزمة مضيق تايوان الثالثة، قامت واشنطن بإذلال بكين عندما أرسلت إلى المنطقة مجموعتين من حاملات الطائرات والسفن الهجومية لدعم تايبيه. واليوم، تروج الولايات المتحدة لتعاون ثلاثي مع اليابان وكوريا الجنوبية لتعزيز الدفاعات الإقليمية في مواجهة الصواريخ الباليستية. وفيما يتابع شي هذا المشهد فإن تجارب الماضي المريرة لا تغيب عن باله أبداً. على أن الصين اليوم تملك شيئاً كانت تفتقر إليه في الماضي، القوة الضاربة النووية والتقليدية ومن النوع الذي يمكنه أن يفصل بين واشنطن وحلفائها في آسيا والمحيط الهادئ.
التوسع الصيني
السجال في الولايات المتحدة إزاء معنى البناء الصيني النووي المتزايد طالما بقي محصوراً بالجوانب العسكرية ومعزولاً عن الأبعاد الجيوسياسية. وركز المحللون الأميركيون بالدرجة الأولى على ما إذا كانت بكين تخوض سباق تسلح، أو ما إذا كانت تواجه ما تعده تهديداً نووياً أميركياً متزايداً، أو ما إذا كانت سياستها المعلنة المتمثلة في “عدم البدء باستخدام” الأسلحة النووية هي سياسة حقيقية أم مضللة. غير أن انطلاقة الصين في هذا المجال لا يمكن تقديرها بالكامل إلا في سياق طموحاتها الجيوسياسية. وإن التركيز على كيفية تقديم هذا التوسع كوسيلة لتحقيق أهداف الصين السياسية الأوسع يؤكد سبب قلة اهتمام بكين بالفهم الأميركي لـ”الاستقرار الاستراتيجي”، أو بفكرة أن المنافسين لن يحاولوا استغلال التطورات العسكرية لصالحهم. ويمكن القول ببساطة في هذا الإطار إن الجيوسياسات النووية الصينية اليوم تتعلق بزعزعة استقرار الحاجز البحري الذي أقيم ضدها.
التوسع النووي الصيني بهذا المنحى سيؤثر في كيفية فهم حلفاء الولايات المتحدة للتوازن العسكري داخل هذا الإقليم. فهم إذ يجرون مراجعاتهم يأخذون في الاعتبار البعد المذهل من حيث الكم والنوعية لاختراقة الصين النووية. إذ إن الولايات المتحدة تملك ترسانة فعالة تضم 3700 رأس حربي نووي، على رغم أن أقل من نصف هذه الرؤوس في حال انتشار ومجهزة للإطلاق. وتعمل بكين بسرعة على سد تلك الفجوة، إذ زادت عدد الرؤوس الحربية في ترسانتها بين عامي 2020 و2023 من 200 رأس نووي إلى 500. وتوقع البنتاغون أن تملك الصين أكثر من 1000 رأس حربي نووي بحلول عام 2030، والعدد سيرتفع خلال عام 2035 إلى 1500 رأس. ولدى الصين سلفاً قدرة هائلة على استخدام هكذا أسلحة في هجمات بالغة الدقة، وهي لديها قاذفات صواريخ أرضية عابرة للقارات ومتوسطة المدى أكثر مما لدى الولايات المتحدة. وما يتخطى ذلك في هذا الإطار يتمثل بأن واشنطن أحالت عام 2013 خيارها النووي الوحيد في هذه المنطقة إلى التقاعد –وهو نمط من صواريخ كروز يطلق من غواصات– مما يعني أنه لن يكون للولايات المتحدة قدرات نووية متمركزة في المنطقة كي تضمن أمن حلفائها بحال وقوع أزمة محتملة.
ومن هنا فإن شركاء الولايات المتحدة في منطقة آسيا-المحيط الهادئ يشعرون بقلق مبرر، إذ وفق دراسة أجراها خلال الآونة الأخيرة “المكتب الوطني للأبحاث الآسيوية “National Bureau of Asian Research، أسهمت المزايا الكمية التي أظهرتها الصين بإثارة القلق في منطقة سلسلة الجزر الأولى، خصوصاً في اليابان، حيث تخشى طوكيو من أن تزداد واشنطن نفوراً من مسألة تحمل الأخطار على طول تلك “الحافة الطرفية”، وذلك مع استمرار تطور قدرات الصين على شن ضربات دقيقة ضد النفوذ الأميركي (وحلفاء أميركا في المنطقة)، مما يسمح لبكين بزيادة الضغوط هناك من دون استثارة أي رد فعل من قبل الولايات المتحدة.
تهدف أنشطة الصين الجيوسياسية النووية اليوم إلى زعزعة الحاجز البحري الذي أقيم ضدها عند طرفها البحري
كما أن المؤسسة الدفاعية الصينية تقوم أيضاً بإظهار اهتمام متزايد لاعتماد استراتيجيات إكراه نووية. ويتحدث المنظرون الصينيون اليوم على نحو روتيني عن الأسلحة النووية الحديثة لبلادهم وما تمثله من “ورقة رابحة” يمكنها إعاقة التدخلات الخارجية في الشؤون الإقليمية. وخلص عديد من المحللين الصينيين في هذا الإطار إلى أن استراتيجية الإكراه أو التهديد النووي المعتمدة من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسياق الحرب الروسية في أوكرانيا، منعت حلف الناتو من تعميق تدخله في ذاك النزاع، مقترحين في هذا المنحى أن بكين قد تستخدم ترسانتها النووية لتحقيق غايات مماثلة.
والمفهوم الصيني للردع يشمل المفهوم الغربي المتمثل بثني الخصوم عن سلوك مسار معين، لكن المفهوم الصيني المذكور يتضمن أيضاً هدفاً أكثر شمولاً واتساعاً يتمثل في إجبار الخصوم على تغيير سلوكهم. فكتيبات التدريب التي بحوزة وحدات الجيش الصيني المتحكمة بمنصات الصواريخ الأرضية المنتشرة في البلاد طالما نصحت دارسيها بأن مجرد وضع الأسلحة النووية في مستويات جهوزية عالية “سيخلق صدمة كبيرة في نفسية العدو” ويفرض عليه طريقة تصرف. والآن بعد أن صار لدى الصين قوة صاروخية كبيرة لشن هجمات نووية تأديبية وقسرية، فإن هذه التكتيكات ستكتسب صدقية أكبر بالنسبة إلى شركاء أميركا الإقليميين. من ثم يمكن لقدرات بكين الضاربة والمتطورة أن تشجع الصين على التخلي علناً عن سياسة “عدم الشروع في استخدام” السلاح النووي، بغية دق إسفين في العلاقة بين واشنطن وحلفائها.
لذا، وفيما يختبر شركاء الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ وعلى نحو متزايد الجهود الصينية النووية، وتتصاعد مخاوفهم من اعتماد الصين سياسة إكراه مدعومة نووياً، فإن وجهة نظر أولئك الشركاء تجاه موضوع التوازن الإقليمي قد تتبدل. كما أن معاينة تقاعس واشنطن وتقصيرها في مواجهة هذا الترهيب الصيني من شأنها زيادة مبررات قلقهم. ومن هنا فإن صياغة استراتيجية موازية فعالة في وجه القوة القسرية الصينية الشاملة وبمواجهة الحشد والإعداد النووي الصيني نفسه، ستمثل الطريقة الأساس للحفاظ على صدقية الولايات المتحدة في المنطقة.
بؤرة غليان
تسعى الصين إلى استخدام حشدها النووي لاختراق حاجز “الحافة الطرفية” الذي يحدها، وذلك من دون إشعال حرب قوى عظمى. وأسهمت على الأرجح قدرات شي في الهيمنة على طيف الصراع –من الضغوط السياسية المنخفضة في حدتها التي يمارسها، إلى التهديد بحرب نووية محتملة– بتشجيعه على زيادة الضغط في هذه المنطقة خلال الأشهر القليلة الماضية.
غير أن الصين وعلى مدى أكثر من عقد داومت في صقل قدراتها لمتابعة هذه الحملة الإكراهية في تلك المنطقة. فخلال عام 2012 انتزعت بكين من الفيليبين السيطرة على منطقة سكاربورو شول البحرية، حقل الصيد المهم في بحر الصين الجنوبي، وذلك باستخدام قوة عسكرية منخفضة الكثافة وضغط اقتصادي تضمن مقاطعة بعض الصادرات الفيليبينية. وفي ذاك السياق احتجت الولايات المتحدة على ضم الصين العملي لمنطقة شول، إلا أن تصعيد بكين في وجه الفيليبين أجبر واشنطن على التراجع. وخلال الصيف الماضي، أشعلت بكين مرة أخرى اشتباكات ببحر الصين الجنوبي عندما اصطدمت سفنها بالسفن الفيليبينية داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لمانيلا، ولم تواجه الصين على الأثر أية عواقب جدية.
واليابان بدورها تعرضت أيضاً للإكراه الصيني منذ مطلع القرن الـ21 والضغط آخذ بالارتفاع في هذا المنحى مع التحشيد النووي الذي تنتهجه بكين. فالصين اليوم تنخرط في جهد مستمر لتغيير الوضع الراهن من جانب واحد في جزر سينكاكو (المعروفة في الصين باسم جزر دياويو) الواقعة عند شمال تايوان، والخاضعة للإدارة اليابانية. فتنشط البحرية الصينية يومياً تقريباً في جوار تلك الجزر لفرض “القانون البحري المحلي” الصيني. وتقوم القوات العسكرية الصينية وعلى نحو روتيني بدخول أو تطويق أراض يابانية. إذ في أغسطس (آب) الماضي مثلاً، انتهكت القوات البحرية والجوية الصينية المياه والأجواء الإقليمية لليابان، وهذا تصعيد غطت عليه بعد أسابيع قليلة واقعة إبحار حاملة طائرات صينية عبر المياه الإقليمية اليابانية للمرة الأولى. وبدت تلك الضغوط المستمرة كأنها مقصودة لإرهاق طوكيو وإضعاف التحالف الأميركي الياباني، وتطبيع سلوك الصين في هذه المنطقة، بغية خلق معيار جديد لقياس أي تصعيد أو أعمال عدائية مستقبلاً.
وتايوان من جهتها في هذا الإطار تبقى الهدف الأساس لحملة الإكراه الصينية التي لم تبلغ مستوى الحرب بعد، إذ إضافة للترهيب العسكري والسياسي الذي تمارسه الصين إزاء تلك الجزيرة، تحاول بكين تهميش مكانة تايوان على المسرح الدولي وتقويض حضورها ضمن البنى والأنساق القانونية الدولية، بيد أن التهديد بالتصعيد يبقى الوسيلة الأمثل لإخضاع تايوان دون حرب واسعة النطاق، إذ يمكن لبكين في السياق مثلاً استغلال احتمال وقوع غزو بحري لإجبار فئات معينة من الطبقة السياسية التايوانية وشرائح من مجتمع الجزيرة على الاستسلام، والإقرار بالسيطرة الصينية. وإن قررت بكين سلوك هذا المسار الأكثر تطرفاً فمن المرجح استخدامها التهديد بتصعيد نووي محدود لردع التدخل الأميركي والياباني.
إذ منذ أن بدأت بكين حملتها الإكراهية الآخذة في الاتساع قامت بلدان قليلة استهدفتها تلك الحملة بزيادة قدراتها العسكرية، وفي المقابل غدا الجيش الصيني أكبر قوة عسكرية داخل آسيا من الناحيتين التقليدية والنووية. لكن بالنسبة إلى شي فإن النجاح لا يتعلق بالانتصار في صدام عسكري مباشر يستدعي التدخل الأميركي، بل يرى النجاح محققاً عبر فصل الولايات المتحدة عن المنطقة بالكامل من خلال تقويض صدقية واشنطن هناك، وإجبار حلفاء الولايات المتحدة على تجنب المواجهة. وكما يشير سلوك الصين الأخير في هذا المنحى، فإن التحشيد النووي الصيني شجع شي على تحمل أخطار أكبر من أجل تحقيق هذه الأهداف.
رفع مستوى الضمانات التعويضية
حملة الإكراه الصينية التي لم تبلغ مستوى الحرب بعد دفعت واشنطن إلى رد فعل واعتماد موقف دفاعي أثار قلق شركاء أميركا الإقليميين. لذا يبقى على المسؤولين الأميركيين معالجة التداعيات الاستراتيجية الإقليمية لهذا الاختراق النووي الصيني، إذ لو استمرت هذه التوجهات قد تجد الصين نفسها في وضع جيد يسمح لها بفرط الصلات التي تربط الولايات المتحدة بحلفائها داخل آسيا والمحيط الهادئ.
ومن هنا ولتقليل زخم هذه الاندفاعة الصينية واستعادة المبادرة، تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية موازية تمكنها من إظهار صدقيتها لشركائها الإقليميين وتغيير حسابات بكين. الصين في المقابل تعيش حال تركيز على شؤون أمنها الداخلي وطموحاتها الإقليمية ومخططاتها الدولية الأكبر المدعومة بأنشطتها الإقليمية. لذا فإن كل استراتيجية أميركية معتمدة ينبغي أن تجبر شي على إجراء مقايضات عقابية بين أهدافه المتعددة، وذلك كي لا يتمكن من اعتناق وهم التقدم على جبهة واحدة من دون التخلي عن أوهامه في الجبهات الأخرى.
وتعاني الصين نقاط ضعف واضحة، وهي مثل جميع الدول تملك موارد محدودة ولا يمكنها ببساطة أن تنفق من دون أعباء الضرورة واختيار الأولويات. وهذا ينطبق على نحو خاص حين تكون قوة قارية صاعدة مثلها معزولة نسبياً وذات طموحات كبيرة واقتصاد متباطئ، ونظام ماركسي-لينيني لا ضامن له، تعاني حال انعدام ثقة عميقة وشبه هوسية تجاه مواطنيها. وفي المقابل تبقى الولايات المتحدة قوة عالمية راسخة ذات نظام ديمقراطي يتيح عقد التحالفات مع شركاء بعيدين جغرافياً ومع طاقات إبداعية في مجتمعات حرة. لذا فإن مهمة واشنطن تتمثل باستغلال أرجحيتها العسكرية والاقتصادية والسياسية تلك، وهي أرجحية مواتية لزيادة عزلة بكين القارية.
ومن هنا فإن الشق العسكري للاستراتيجية الموازية ينبغي أن يؤكد المزايا الأميركية الموجودة في شراكات التحالف والدفاع الصاروخي المشترك والحرب في أعماق البحار. ومن خلال إدخال اليابان وكوريا الجنوبية في نظام تحالف دفاعي صاروخي إقليمي، والقيام مثلاً بربط هذا النظام بالدفاعات الصاروخية المحسنة داخل الولايات المتحدة، يمكن لواشنطن أن تقلص من مخاوف حلفائها وأن ترفع في المقابل من مستوى الأخطار أمام بكين، إن قامت هذه الأخيرة بممارسة الضغوط على أي من حلفاء الولايات المتحدة. إن إعادة واشنطن في هذا الإطار نشر صواريخ كروز مسلحة نووياً وتطلق من الغواصات، يمنحها خيار رد إقليمي سريع من شأنه أن يعزز ثقة حلفاء الولايات المتحدة ويحول مزيداً من الموارد الصينية نحو وجهة الدفاع الصاروخي والحرب في أعماق البحار.
ينبغي من أية استراتيجية أميركية أن تجبر شي على إجراء مقايضات عقابية مكلفة بين أهدافه المتعددة
وينبغي من البعد الاقتصادي في هذا السياق أن يستفيد من اهتمام الحلفاء ومصلحتهم بالأسواق الأميركية، إذ من خلال تعميق وتمتين العلاقات التجارية في غرب المحيط الهادئ ستبين واشنطن لشركائها وبكين في آن واحد أن أمن الولايات المتحدة الاقتصادي لا ينفصل عن الوضع الإقليمي الراهن، إذ إن اتفاقات التجارة الثنائية المحدثة التي ركزت على القطاعات التي تهيمن عليها الصين –مثل قطاع المعادن الحيوية وسلاسل الإمداد– من شأنها أيضاً أن تفطم واشنطن وشركاءها عن السوق الصيني، وتقوي عضدهم تجاه ممارسات الإكراه المعتمدة من قبل بكين. وعلى رغم إسهام السياسات الداخلية الأميركية في تعقيد إبرام الاتفاقات التجارية فإن هناك قبولاً في واشنطن لاتفاقات تتعارض مع استراتيجية الصين الهادفة إلى خلق تبعيات اقتصادية.
اقرأ أيضا.. لماذا أيدت الصين قرار اعتقال نتيناهو؟
أما الشق الأخير من الاستراتيجية الأميركية فيجب أن يركز على الجوانب السياسية، إذ إن بكين تشن صراعاً فلسفياً أحادي الجانب عموماً ضد الولايات المتحدة عبر إغراق منشورات الإنترنت بالمعلومات المضللة، وذلك في محاولة لاستغلال الانقسامات القائمة داخل المجتمع الأميركي. وترددت واشنطن حتى الآن في مواجهة هذا التحدي الأيديولوجي، وفوت عليها تلكؤها ذاك في الحقيقة فرصة استغلال أكبر نقطة ضعف صينية، متمثلة بنظام الصين السياسي بحد ذاته. إذ إن بكين تكرس موارد هائلة للسيطرة على مواطنيها الذين يبلغ تعدادهم 1.4 مليار نسمة. ويمكن للولايات المتحدة استخدام هذا الهاجس لفرض كلف باهظة على الصين، كأن تعثر على طرق للتحايل على الرقابة الرقمية وتنشر كتابات المعارضين الصينيين التي تتناول فساد حكومة بلادهم وإخفاقاتها الاقتصادية. فبكين بذلت في هذا الإطار جهوداً كبيرة لإسكات المعارضين الأفراد والقضاء على الاحتجاجات الصغيرة والفرعية، مما يشير إلى أنها لن توفر أية نفقات مطلوبة لمواجهة حملات معارضة أوسع. إن الطريقة الأفضل لإقامة حواجز حماية وأمان إزاء الصين تتمثل في صرف انتباه شي عن مخططاته الإقليمية والدولية. وكلما زاد تركيزه على الداخل الصيني، تقلصت الجهود والموارد التي سيكرسها نظامه لممارسة النفوذ والهيمنة.
ومن دون استراتيجية موازية تعتمدها الولايات المتحدة وتكرسها للاستفادة من مزاياها التنافسية، ستخاطر واشنطن بموقعها المتقدم في غرب المحيط الهادئ، هذا الموقع الذي سيزداد تآكلاً بفعل النظرة العسكرية الضيقة تجاه الاندفاعة النووية الصينية. ومن هنا فإن على واشنطن استغلال نقاط قوتها التي لا منافس لها، والتركيز على إحياء صدقيتها إزاء حلفائها، ومفاقمة نقاط ضعف بكين المعروفة، والقيام في نهاية المطاف بقلب ميزان الكلفة والفوائد أمام حملة الإكراه الصينية المدعومة نووياً. وبمجرد تقديرها للدور الخفي الذي يلعبه التحشيد النووي الصيني في دفع أجندة بكين الجيوسياسية، يمكن للولايات المتحدة تحويل سياساتها الخاصة للمحافظة على الوضع القائم.