لن أدعي إطلاقا أنني معنية وشغوفة بمتابعة مناظرات الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا العام، إذ إنها لا تعنيني، وهذا يحيلني لتصريح المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف للصحفيين بعد سؤال حول متابعة الرئيس الروسي للمناظرة الأمريكية «لا أعتقد أنكم تتوقعون أن يضبط الرئيس الروسي المنبه، ويستيقظ في ساعات الصباح الباكر، ليشاهد المناظرة الأمريكية» وما هذا التصريح إلا لإثبات وتأكيد عدم تدخل روسيا في شؤون أمريكا الداخلية، وأن هذه المناظرة والانتخابات والرئاسة الأمريكية كلها شأن أمريكي لا علاقة لروسيا به، مع محاولة تصديق ذلك بصعوبة، لكن العالم العربي – شئنا أم أبينا- معنيٌّ بالشأن الأمريكي فكل شؤونه موضوعة على طاولة النقاش أمريكيا، حتى مع كل ما يشهده العالم اليوم من فوضى وتهافت قيمي، ونفاد ثقة الناس في كل ادعاءات الساسة الأمريكان وغير الأمريكان ووعودهم.
مع كل ذلك لا أنكر أن فضولا دفعني لمحاولة معرفة مضمون هذه المناظرة التي شهدها العالم والولايات المتحدة يوم الخميس الماضي، إن لم يكن لدافع معرفي فلدافع فنيّ يتعلق بمدى حرفية الطرفين في طرح الآراء، ودحض الحجج خصوصا مع الإعداد المسبق لهذه المناظرة كأول مواجهة شخصية بين مرشحَي الرئاسة الأمريكية، الرئيس الحالي جو بايدن، والرئيس السابق دونالد ترامب، والحقيقة أنني عدت بخفي حنين دون معرفة ولا حرفية. المناظرة التي نظمتها شبكة «سي إن إن»، مع بدء العد التنازلي لموعد الانتخابات الرئاسية، المقررة في الخامس من نوفمبر عام 2024 أسفرت عن صدمة الديمقراطيين والعالم في أداء بايدن خلال المناظرة التي استمرت 90 دقيقة، حتى وإن حاول بعضهم التخفيف من أثر هذه الصدمة كما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق «باراك أوباما» في تغريدته التي نشرها على منصة إكس قائلا: «المناظرات السيئة تحدث، ثقوا بي، أنا أعلم ذلك، لكن هذه الانتخابات لا تزال بمثابة خيار بين شخص ناضل من أجل الناس العاديين طوال حياته، وشخص لا يهتم إلا بنفسه» وأضاف «الانتخابات ستكون بين من يقول الحقيقة؛ الذي يعرف الصواب من الخطأ وبين شخص يكذب لمصلحته الخاصة» ويبدو أن جدلية الصدق والكذب هذه ورقة متفق عليها بين أعضاء الحزب مما دفع الرئيس بايدن لتكرارها في مناظرته مع خصمه «الكاذب الشرير» دونالد ترامب، كما كررها أمام تجمع لأنصاره في ولاية كارولاينا الشمالية «لم أعد أسير بسهولة كما كنت أفعل سابقا، لم أعد أتكلم بطلاقة كما كنت أفعل سابقا، لم أعد أناظر بالجودة السابقة نفسها، لكنني أعلم كيفية قول الحقيقة» لكن هذا الاتكاء القيمي على ضرورة انتخاب بايدن لصدقه ونزاهته وإخلاصه سقط خلال وقت المناظرة القصير دون حاجة لانتظار التحليلات واستقصاء الرأي بعد ذلك حينما وقع الرئيس بايدن في حرج عظيم جراء «كذبته» المتعلقة بموضوع الحدود «على فكرة حرس الحدود دعموني وأيّدوا موقفي» في حديث عن حماية الحدود وفتحها أمام المهاجرين منددا بموقف خصمه في إغلاق الحدود، ليأتي الرد خلالها عبر حساب حرس الحدود مباشرة لينفي ذلك الادعاء:
«To be clear, we never have and never will endorse Biden.»
الولايات المتحدة الأمريكية التي نصّبت نفسها «شرطيا للعالم» و«حارسا لقيم الديمقراطية والإنسانية» شهدت مناظرة بين رئيسين أمريكيين كانت ملأى بوهْم التفوق والقدرة من الطرفين مع ادعاء المهارة والمعرفة والكفاءة، ولم تخل من توظيف كل الممكن وغير الممكن لكسر الآخر متضمنا التنمر على عوارض التقدم في العمر (رغم أن المرشحين تجاوزا معا الثمانين من العمر مع فارق ثلاثة أعوام بينهما بحسب بايدن خلال المناظرة) والتفاخر بالبرنامج اليومي للياقة البدنية والوزن والطول! ورغم توقع محاولة كل طرف إثبات رأيه بدحض حجة الخصم لكن الأمر ذهب أبعد من ذلك مع تناول الشخصية بعيدا عن الكفاءة كتركيز ترامب على قدرات خصمه العقلية، وتركيز بايدن على سلوكيات ترامب الشخصية متضمنة «خيانته لزوجته أثناء حملها» في محاولة لإثبات سقوط إنسانيته! متناسيا الإنسانية في دعمه لحرب غزة وقتل أطفالها بدم بارد.
ختاما: مهما تابعنا ونتابع من تفاصيل عالم السياسة المعاصرة فإننا لن نعجب إطلاقا من سيل المتناقضات والعجائب تأكيدا لمبدأ السياسات المعدة سلفا، وسيناريوهات ثنائية المال والسلطة، وأن منطق الخصومات السياسية لا يحتكم بالضرورة لمبدأ الكفاءة أو القدرة، بل البقاء لنفوذ الأقوى المتحكم في أوراق اللعبة، لذلك لن يكون مستغربا بعد هذه المناظرة الصادمة مفاجأة حملة بايدن التي جمعت 14 مليون دولار يومي الخميس والجمعة فقط، ونشرت أفضل ساعة لجمع التبرعات مباشرة بعد مناظرة ليلة الخميس، بينما قال منظمو حملة ترامب إن الحملة جمعت 8 ملايين دولار ليلة المناظرة، تعزيزا لفكرة مفادها أن لا منطق في عالم السياسة.