دبلوماسية مناكفة بين مصر وإثيوبيا في الصومال
أية قوات مصرية تصل، أيا كان مسماها ضمن قوة سلام أفريقية أو خاصة لدعم الحكم في الصومال، ليست بوارد التدخل في أي نزاع داخلي، دع عنها التدخل في مواجهة مع إثيوبيا.
إلى أي مدى يمكن الإقرار بأن مصر وصلت الصومال متأخرة. يعتمد ذلك على أن يكون هذا الوصول جديا وليس شكليا. لا شك أن السلطات الصومالية المشتتة بين إدارة قطاعها الذي تسيطر عليه من البلاد، وضغوط حركة الشباب، وتحديات الإقليم، ستجد في الحيوية التي دبت في علاقتها مع مصر بعض السلوى. لكن الصوماليين يعرفون كيف سارت علاقات القاهرة مع شرق ليبيا أو مع الجيش السوداني، ليفهموا أن مصر تناور لتضغط على إثيوبيا، وأنها ليست بصدد إعادة النظر في مجالها الحيوي لتعود وتنتبه إلى أن الصومال من مقتربات مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
لا شك أن الكثير قد تم تداوله خلال لقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الأخير مع نظيره الصومالي حسن شيخ محمود، وما رشح عن توقيع بروتوكول للتعاون الدفاعي. وسواء أكانت القوات والمعدات العسكرية المصرية التي تذهب الآن إلى الصومال ضمن قوات حفظ السلام، التابعة لبعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم)، أم هي بادرة مصرية منفردة تنضم إلى مبادرات “تطويق” الند الإثيوبي جغرافيا ببروتوكولات تعاون دفاعي مع الدول المحيطة به، وخصوصا المتشاطئة معه بنهر النيل، فإن مصر انتبهت أخيرا إلى أن من الضروري لها أن تتحرك وأن تفعل شيئا في مجالها الحيوي.
الصومال مقسم منذ سقوط حكم محمد سياد بري عام 1991. الوحدة الوطنية الصومالية مهددة منذ يوم أعلنت دولة أرض الصومال استقلالها، بعد أن نأت بنفسها عن فوضى الحرب الأهلية في الصومال. لا جديد في ذلك لتنتبه له مصر الآن. الجديد هو الرغبة الإثيوبية في الوصول إلى ساحل خليج عدن والمحيط الهندي. فأديس أبابا تريد أن يكون لها منفذ اقتصادي وعسكري على البحر. إثيوبيا هي أكبر بلد في العالم سكانيا (120 مليون نسمة) بلا منفذ بحري.
وصول إثيوبيا إلى البحر عبر أرض الصومال بحد ذاته لا يزعج مصر. لم تتحرك القاهرة عندما وصل الأتراك إلى السودان ووقعوا اتفاق قاعدة سواكن، أو حين وصلوا إلى الصومال واخترقوا بنيته السياسية مشاركة مع القطريين. الصومال، إلى حد وقت قريب، يبدو بعيدا جدا. جغرافيا، الصومال أبعد من اليمن التي أصرت مصر على أن تنأى بنفسها عن التطورات فيه، إلى حين قرر الحوثي أن يأخذ اليمن إلى مصر ويضيّق عليها مصدر رزقها الكبير بحصاره غير المباشر لقناة السويس. وتوقيع بروتوكولات الدفاع مع الدول المحيطة بإثيوبيا لم يشمل الصومال من قبل، ربما لأن الصومال أزمة وليس دولة. لكن حين بادر الإثيوبيون وفاجأوا المصريين بالاتفاق مع أرض الصومال على استئجار شريط بحري على ساحل خليج عدن، وجدت القاهرة في الأمر فرصة لمناكفة أديس أبابا.
لم تلتفت إثيوبيا من قبل للاتفاقيات المصرية الأمنية أو الدفاعية مع دول الطوق، جنوب السودان وكينيا وأوغندا وبوروندي، وجاءت تعليقاتها باردة. إلا أن رد الفعل الإثيوبي هذه المرة كان صاخبا. غضب الإثيوبيين، في جزء منه، جاء مفتعلا. فإذا كان الصوماليون قادرين على فهم أن المصريين غير جادين في تواجدهم في القرن الأفريقي، فإن الإثيوبيين يستطيعون قراءة محاضر ملفات مفاوضاتهم مع المصريين فيما يخص سد النهضة، وكيف كان المصريون يوحون بالتصعيد وتنطلق ماكنتهم الإعلامية بالحديث عن انتقام قادم على تشغيل السد من دون توافق مع القاهرة وأن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى انحسار تدفق النيل. وصل الأمر بمحسوبين على السلطة إلى الحديث عن استعدادات لغارات جوية أو عمليات تخريب تنفذها قوات خاصة تستهدف السد. ثم، لا شيء. صمت.
وإذا لم يسترجع الإثيوبيون قراءة هذه الملفات، فإن “تدخل” المصريين في شرق ليبيا والسودان، والأهم من كل هذا في غزة، تذكير بتعثر الفعل المصري الذي يعقب الصوت العالي.
لكن الإثيوبيين شطّار في الاستفادة من “التدخل” المصري في الصومال. فثمة أصوات معتدلة في إثيوبيا تضغط لإيجاد تفاهم مع المصريين. وبادر أكثر من طرف إقليمي ودولي للوساطة بين القاهرة وأديس أبابا بهدف التوصل إلى تسوية لملف السد العالق. ها هم يستخدمون بروتوكول التعاون العسكري المصري – الصومالي للرد على منتقديهم. فمصر، حسب الرواية الإثيوبية الآن، تريد أن “تمنع الفرصة التاريخية التي وفرتها لنا أرض الصومال للعودة إلى البحر بعد أن حرمنا منه منذ استقلال إريتريا عام 1993”.
أن تقدم جيبوتي للإثيوبيين منفذا تجاريا موسعا بديلا إلى البحر، فهذا لا يقدم أو يؤخر في قرار أديس أبابا الاستفادة من فرصة التصعيد. فها هي تعين سفيرا في أرض الصومال، وتنشر قوات على الحدود مع الصومال، وتحذر مقديشو من الاستقواء بقوى خارجية. لكنها ترد أيضا على لسان وزير خارجيتها بأن باب التفاوض مع مصر مفتوح. هذا ليس مسكا للعصا من وسطها، بل هو تذكير بأنها تمسك العصا من طرف وتلوح بالطرف الآخر محذرة من أنها تملك القوة: السد على أرضها وتتحكم في معدلات تدفق النيل بواسطته، وقواتها إلى حد وقت قريب تعد 10 آلاف جندي في الصومال، وهناك المزيد على الحدود.
في نفس يوم التلويح الإثيوبي، يجتمع رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي مع نظيره الصومالي حمزة عبدي بري، ويبحثان العلاقات الثنائية و”المنعطف التاريخي” في العلاقات بحسب وصف السفير الصومالي في القاهرة. مثل هذا اللقاء يعد علامة ضعف لأن ما يفترض أنه يجري في الصومال الآن هو عملية عسكرية استخبارية مصرية. فليس لدى مصر ما تقدمه “مدنيا” للصومال، وحال الصومال المالي والحكومي معروف. لقاء ربما للكاميرات.
إقرأ أيضا : الهجوم على شمال الضفة الغربية مرحلة جديدة وخطيرة
هذه اللقاءات الشكلية تعيدنا إلى القراءة الأولى لما تريده مصر من “تدخلها” في الصومال: مجرد استعراض. فالسلطات الصومالية أمام معركة حياة أو موت مع حركة الشباب الإرهابية، وليس من الوارد أن تحتك بأرض الصومال اليوم لتوحد البلاد. وأية قوات مصرية تصل، أيا كان مسماها ضمن قوة سلام أفريقية أو خاصة لدعم الحكم في الصومال، ليست بوارد التدخل في أي نزاع داخلي، دع عنها التدخل في مواجهة مع إثيوبيا.
دبلوماسية المناكفة بين مصر وإثيوبيا يجب أن تأخذ في الاعتبار موازين القوى بين الطرفين.