دبلوماسية السودان وسياسة الأمر الواقع
المثير للعجب أن تبادر حكومة الأمر الواقع في السودان باستئناف علاقات دبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية، فكأنّ أسباب قطع العلاقات بين البلدين زالت تماماً. والملاحظ أنّ الدبلوماسية السودانية سارعت بنفيها تقديم الجانب الإيراني طلباً لإنشاء قاعدة عسكرية له في السودان.
للسودانيين مثلٌ يردّدونه في كثير أحوالهم، لكنّهم قلّ أن يلتزموا به “كلوا إخوانا وتحاسبوا تجّاراً”، وخلاصة معناه أنّ المجاملات شيء، أما التجارة فأمرٌ آخر. تذكّرت المثل، وأنا أتابع مسار العلاقات التي استأنفتها حكومة الأمر الواقع في السودان مع حكومة إيران.
تناقلت الأنباء أنّ حكومة السودان، وهيَ في غمار مقاتلتها قوات الدعم السريع التي أنشأها نظام الإنقاذ البائد عشية تفـاقم أزماته في دارفور، طلبت عوناً من إيران ليساعدها في القضاء على قوات الدعم السريع التي تجرأت على مواجهة الجيش السوداني في معارك دمرت السودان دماراً. يقول السودانيون عن ذلك الدمار إنه يعادل “دمار عَجوبة سوبا”… وعجوبة في الحكايات الشعبية امرأة ماكرة أحدثت فتنة كبرى نتيجتها خراب “سوبا” ودمارها، بعـد أن كانت هذه عاصمة عامرة لمملكة علوة المسيحية التي كانت قائمة في أواسط السودان وانهارت في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وقامت بعدها مملكة سنار الإسلامية في عام 1504 التي قضى عليها محمد علي باشا الكبير عام 1820.
ولأنّ مناسبة الحديث هنا عن علاقة السودان بإيران الإسلامية، فأذكّر أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران كانت من أوائل الدول التي رحبتْ، أيّما ترحيب، بانقلاب “الإنقاذ” (1989) لرفعها رايات الحكم الإسلاموي عالية في ساحات السودان. وبرغم العلاقات التي بدت حميمة بين البلدين، لكني أنقل هنا ما جاءني من دبلوماسي سوداني أثق في روايته، حين عمل خلال سنوات حكم “الإنقاذ” الأولى في سفارة بلاده في طهران. روى ليَ الرّجل أن العلاقات بين البلدين والتعاون بينهما لم يكن، مثل ما تصوّر الناس، إيجابياً أو مُرضياً في نظر الجانب السوداني، ربّما يعزى لسببٍ رآه محدّثي في تركيز الجانب الإيراني على الجوانب الترويجية للثورة الإسلامية ونجاحاتها، فيما توقع السودان مساعدات إيرانية ملموسة في استخراج البترول في السودان.
أصدق وصفٍ لدبلوماسية السودان أنّها “دبلوماسية أمرٍ واقع”، فقد بدا عليها التردّد والتراجع وفقدان البوصلة بسبب تدخّل جنرالات تعوزهم الخبرة
حدّثني ذلك الدبلوماسي أنّ الوفود السودانية ظلتْ تتسابق لزيارة طهران، فتجلس إلى كبار الملالي فيسمعون معسول الكلام عن رغبات حاضرة لمساعدة السودان الذي رفع رايات الإسلام عالياً في ربوع السودان، وكأنَّ سكان البلاد قبلهم كانوا من عبدة الشمس، إلّا أنهم حين يجلسون إلى كبار التنفيذيين في الحكومة الإيرانية، في وزارات التمويل والبنك المركزي الإيراني، يسمعون لغة أخرى. طلب منهم محافظ البنك المركزي الايراني سداد الديون القديمة التي تلقتها حكومات سابقة منذ فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري في السودان. ولعلّ مثل هـذه المماطلات حدثت في مرّاتٍ عديدة، وبعد تكرارها في السنوات الأخيرة لحكم “الإنقاذ”، تنبّه مسؤولو حكومة “الإنقاذ”.
وضاق ذرعهم بتركيز الجانب الإيراني على الجوانب الدعائية للمذهب الشيعي، في بلدٍ لون مذهبه سنّي مالكي. وبدا الأمر، في نظر بعض السودانيين، أن ما يشيعه معارضو الثورة الإسلامية الإيرانية في الغـرب عن اهتمام إيران بما أسموه “تصدير الثورة” اتهام غير دقيق، إذ هو في حقيقته “تصدير للمذهب الشيعي” ممزوج بتعاونٍ محدود، ودون الطموح في بعض الجوانب العسكرية والأمنية. في آخر أمره، قطع نظام “الإنقاذ” كلّ علاقات دبلوماسية وغـيرها مع إيران. ذلك مجمل ما سمعت من صديقنا الدبلوماسي السوداني.
ولعلّ المثير للعجب أن تبادر حكومة الأمر الواقع في السودان باستئناف علاقات دبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية، فكأنّ أسباب قطع العلاقات بين البلدين زالت تماماً. والملاحظ أنّ الدبلوماسية السودانية سارعت بنفيها تقديم الجانب الإيراني طلباً لإنشاء قاعدة عسكرية له في السودان، قبل أن يبادر الجانب الإيراني إلى النفي، إذ هو الجانب المعنيّ باتهام الإعلام الغربي له، يُظهر اضطراباً في أداء الدبلوماسية السودانية غير مبرّر. أما عن طلب السودان دعماً عسكرياً من إيران، فإنّ حاجة الجيش السوداني الرسمي المُلحة لتسليحٍ عاجل لمواجهة قوات الدعم السريع المتمرّدة حقيقة لا ينكرها أيّ طرفٍ من ذلك الجيش، خصوصاً أنّ تلك القوات المتمرّدة قد أحكمتْ سيطرة لا حدود لها على ما يقارب ثلثي البلاد.
لا تنفك حكومة الأمر الواقع في السودان ترسل رسائل متناقضة تراوح مكانها بين حربٍ عجزتْ عن إدارتها وتفاوض فشلت في إدارته
وعلى ذِكر اضطراب دبلوماسية السودان، التي أصدق وصفٍ لها أنها “دبلوماسية أمرٍ واقع”، فقد بدا عليها التردّد والتراجع وفقدان البوصلة بسبب تدخّل جنرالات تعوزهم الخبرة في ملفاتها. ها هو السودان يخوض حربا طاحنة مع نفسه، دفع أثمانها آلاف الشهداء والجرحى، والملايين من السكان المهدّدين بالقتل والجوع، في نزوح عبر قفار وصحارى لا ترحم، فإنّ حكومة الأمر الواقع لا تنفكّ ترسل رسائل متناقضة تراوح مكانها بين حربٍ عجزتْ عن إدارتها وتفاوض فشلت في إدارته.
من تلك الرسائل التي لم تفتقر إلى المصداقية فحسب، بل فارقت الأعراف والتقاليد الدبلوماسية المرعية، تحميلها كبائر التهم جزافاً (أو حتى غير جزافٍ)، وإطلاقها عبر القنوات الفضائية، بلا تروٍّ، ضد بلدان شقيقة أو جارة، يسمّيها الناطقون بلسان حكومة الأمر الواقع بأسمائها، ويتهمونها بالتدخل السافر، بل وبتسليح قواتٍ سودانيةٍ وصفتها تلك الحكومة بأنها متمرّدة خارجة عن طوعها.
يتساءل المرء عن جدوى وجود علاقات دبلوماسية قنواتها قائمة وراسخة للسودان مع هذه البلدان، إنْ لمْ تستغل بالحُسنى الدبلوماسية لتعالج عبرها مثل هذه الأزمات والتدخلات في شؤون البلاد الداخلية؟
ثم تأتي زيارات رئيس مجلس حكومة الأمر الواقع، الجنرال عبد الفتاح البرهان، لتزيد ضغثاً على إبّالة الدبلوماسية السودانية. تتساءل دوائر الحرب والسلم في السودان عمّا وراء تلكم الزيارات وصاحبها تُـفرشَ له الأبسطة الحمراء من عاصمةٍ هنا وأخرى هناك، ولا يكاد أهل القضية المعلقة مصائرهم في جحيم الحرب يدركون قبضة ريحٍ من تلك الجولات. تلك حربٌ تدور في السّودان وستكمل عامها خلال شهر أو أكثر، وهي حربٌ يحكمها عشى البصر وقلة العقل، ويضرم نارهـا من يشعلها، فهي حرب انتحار، ويتفاوض بشأن إيقافها أهلوها وهُم في بلاد الآخرين.
يتساءل الناسُ في السودان: أتكون حرباً ممّا أوحى الله به لبعض نبيّيه، فإنْ سألوا عن أسبابها ساءتهم؟