خلف البندقية.. حرب وسائل التواصل في سوريا
قبل عام 2011، كانت مؤسسات الدولة السورية تحتكر القوة ممثلة بالسلاح والإعلام، وبعد اندلاع حراك الثورة، احتكرت السلطة العنف لأشهر، لكنها لم تستطع أن تحتكر الإعلام مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي
أعرف أن العنوان الذي وضعته أوسع وأكبر من مجرد مقال تخصصي، كالذي أكتبه كل أسبوع في جريدة “عنب بلدي”، لكنني أطمع بأن يبدأ النقاش فعليًا في الحرب الموازية التي تجري على الشبكات، وهي حرب ليست مكمّلة لما حصل على الأرض، بل موازية، وتكاد تسبق عمل المدافع والرصاص.
قبل عام 2011، كانت مؤسسات الدولة السورية تحتكر القوة ممثلة بالسلاح والإعلام، وبعد اندلاع حراك الثورة، احتكرت السلطة العنف لأشهر، لكنها لم تستطع أن تحتكر الإعلام مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وظاهرة الصحفي المواطن الذي نقل الأحداث لجميع أنحاء العالم، وباتت صوره مصدر رئيسًا على الشاشات وفي نشرات الأخبار.
مضت نحو 13 سنة إلى أن أصبحت البلاد اليوم ساحة لجيوش من عدة دول، وبات التقسيم حاصلًا، وينقصه فقط اعتراف رسمي.
لم يعد السوريون يملكون هوية واحدة يدافعون عنها سوى على مواقع التواصل، فهم يخوضون حروبًا للدفاع عن مطبخهم، أو جمالهم، أو إرثهم الثقافي الاجتماعي، كما يخوضون حروبًا كوميدية بينية مثل حرب “حلاوة الجبن” بين حمص وحماة، وحرب “الكمون” بين الدمشقيين والحلبيين، وهو ما يثبت حيويتهم خارج الجغرافيا.
هل تعتبر وسائل التواصل أداة إيجابية قد تسهم في إعادة بناء الهوية، والقوة المجتمعية، ومواجهة دعاية السلطة وتجاوز خطوطها؟ تشير المعطيات إلى أثر مدمّر لوسائل التواصل في نفس الوقت.
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورها في المساعدة على مواجهة الكوارث، ونقل ما هو مخفي من معلومات عن الجمهور والرأي العام العالمي، ولم يكن استثمارها حكرًا على سوريا، فقد ظهر تأثيرها قبل بذلك، ابتداء من زلزال وتسونامي سومطرة 2004، وفي الثورة البنفسجية بإيران 2009، ثم دول الربيع العربي ابتداء من 2010، وتسونامي اليابان 2011.
وشكلت وسائل التواصل نقلة نوعية في أثرها الإيجابي العابر للحدود، لكنها في ذات الوقت، استخدمت أداة في تغذية الصراعات وخطاب الكراهية، ومثله ما حصل في سوريا أيضًا، فقد استطاع تنظيم “الدولة” (داعش) حشد الآلاف من المقاتلين من جميع أنحاء العالم باستخدام وسائل التواصل، وجرى عبر نفس الوسائل تنظيم شبكات لتمويل التنظيم، وحتى اليوم، لا يزال التنظيم قادرًا على بث خطابه الإعلامي على منصات سهلة الاستخدام والوصول مثل “تلجرام”.
وخلال السنوات الأخيرة، ارتفعت وتيرة حرب وسائل التواصل، وهي أكثر نجاعة من المتحدثين الرسميين أو المعارضين على الشاشات، وتمثل قوة ناعمة، يجري فيها استثمار جميع المؤثرين من فنانين، ورياضيين، وحتى طهاة.
ويبدو واضحًا أن الحرب بين السلطة والجمهور الذي يعارضها في سوريا قد انتقلت إلى الفضاء الإلكتروني، ولم يعد مفيدًا إفراغ سوريا من القوى الثورية وخلق “مجتمع متجانس”، كما وصفه الرئيس بشار الأسد، إذ استطاعت معارضة المنفى (Exiled opposition) أن تأخذ دورها، وتشكلت لوبيات مدعومة برأي عام صريح خارج الجغرافيا، وهو ما عوّض كمّ الأفواه الذي تمارسه السلطة عبر القبضة الأمنية والتشريعات العقابية في الداخل.
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا في “صراع المعلومات” (information conflict)، وبشكل متداخل بين ما هو مدني وعسكري، إذ يظهر فعالية وتأثيرًا في المجتمع والجمهور، وهو ما توضحه دراسة بعنوان “وسائل التواصل الاجتماعي وصراع المعلومات” (Social Media and Information Conflict)، لباحثين في جامعة “كوازولو ناتال” بجنوب إفريقيا.
تشير الدراسة إلى العمليات النفسية في الحرب على وسائل التواصل، التي “تهدف إلى تغيير تصورات الجمهور المستهدف”.
إذًا، وسائل التواصل ستكون ساحة الحرب لسنوات، ليس فقط من أجل الحريات أو المطالبة بالحقوق المدنية، بل أيضًا للتأثير في قوة الخصوم، فالسياق العسكري يتأثر بموقف المجتمع، كما أن تركيبته وعناصره باتت على تواصل مع هذا المجتمع، ولا يمكن بناء عقيدة قتالية مثالية لجيش محطّم نفسيًا، أو لجيش متهم بانتهاكات وجرائم حرب، ويجري سوق عناصره إلى الجندية بالإكراه، ما يدفع بآلاف الشبان إلى رفض الانخراط في صفوفه، بل ومحاولة ركوب البحر والتعرض لخطر الموت بغية تجنب الخدمة فيه.
ليس هذا فحسب، بل لن يكون بالإمكان تحقيق الحد الأقصى من الأدلجة التي مارسها النظام لعقود، فالجيل الجديد أصبح يملك جهاز هاتف متطور يمكنه من تعلم لغات ومعارف جديدة عبر اللعب، وهو ما يعني أن إغلاق البلاد أو إعادتها لما سبق أصبح مستحيلًا.
ما سبق يفسر استثمار المؤسسة الرسمية للنظام في سوريا بوسائل التواصل، بدءًا ببشار الأسد وزوجته، عبر رسائل اجتماعية مدروسة، وربما يكون من المستحيل اللحاق وحجز مساحة من التأثير دون حشد للأصوات الموالية على وسائل التواصل، وتضييق على مساحة الحريات بمنع بعض المنصات أو إصدار تشريعات تعتبر التعبير عن الرأي السياسي المعارض أو التواصل مع وسائل إعلام مستقلة بمنزلة جريمة يعاقب عليها القانون.
لقد بدأت المعركة للتو، معركة لا يمكن كسبها دون فهم أدواتها، وأهمها التفاعل.. وللحديث بقية.