خلافات الغرب.. وآيديولوجية «بوتين»
انضمت روسيا إلى تحالفات تجارية تقودها الصين، وكسبت تأييد كثير من دول العالم النامي. بهذا التوجه المتعدد الأوجه تجاوزت روسيا الحصار الاقتصادي، وضمنت دعم دولة الصين العظمى، وكرست قدرتها على الاستمرار في المعركة.
منذ عام، لم يكن احتمال انتصار روسيا في الحرب مع أوكرانيا وارداً؛ لكنه الآن يبدو ممكناً، بدليل تحذير الرئيس الفرنسي ماكرون بعد اجتماع ضمَّ عشرين دولة أوروبية «بأننا سنبذل كلَّ ما نستطيع لمنع انتصار روسيا»، ولو استدعى الأمر «إرسال قوات عسكرية أوروبية إلى أوكرانيا»؛ وعندما سُئل عن جديَّة هذا الأمر، قال: «يجب ألا نستبعده كخيار».
هذا التصريح هو رسالة للرئيس بوتين الذي هو أيضاً استشعر النصر، فأكَّد في خطابه السنوي للأمة الروسية أنَّ لديه أسلحة متطورة، وأنَّ الغرب يستهدف بلاده واستقلالها، وذكَّر الغرب بأنَّ لديه أسلحة قادرة على ضرب مدن أوروبية، ثم أورد تحذيره بأنَّ التصعيد سيؤدي لاستخدام أسلحة نووية تدمر البشرية جمعاء. وكعادة بوتين في استحضار التاريخ، ذكَّر الفرنسيين والألمان بأن عليهم أن يأخذوا العبرة من جنود أوروبيين دخلوا بلاده، ملمحاً لهزيمة نابليون وتهاوي ألمانيا أمام أبواب موسكو!
هذه الملاسنة بين الزعيمين الفرنسي والروسي تؤشر على صعوبة المشكلة الأوكرانية؛ لأن الروس ينظرون إليها نظرة صفرية، وكذلك الغرب، وبالتالي فكسب أحدهما خسارة كبرى للآخر؛ وهكذا ستبقى الحرب استنزافية، بمعنى: كلما تقدمت روسيا على الجبهة زاد الغرب أكثر من دعمه العسكري واللوجيستي لأوكرانيا، فتتعدل موازين القوى بدم الروس والأوكرانيين. فالغرب يرى أن المطلوب استنزاف روسيا وليس هزيمتها؛ لأن الهزيمة ستدفع القيادة الروسية أكثر إلى أحضان الصين، وبذلك ستصبح المشكلة للغرب مضاعفة، وأوسع خطراً.
بالمقابل يرى الرئيس بوتين أن روسيا قوية، ولا أحد بوسعه أن يهزمها، وأن مطالبها الأمنية يجب أن تلبى، وإلا فإن الحرب مستمرة؛ ونبه مواطنيه في خطابه بأن المصانع العسكرية تعمل بطاقتها القصوى، وأن البلاد تعيش على اقتصاد الحرب وتنمو سنوياً، وأن المواجهة مصيرية، وأن التاريخ شاهد على قدرتها على الصمود والانتصار. لكن التاريخ -خلاف ما يقول- يشهد أيضاً على هزيمة روسيا في كثير من المعارك، وبلاده في المعركة الحالية أمام خيارين لمنع الهزيمة: استخدام السلاح النووي، أو اللجوء التام للصين. فاستخدام السلاح النووي ليس سياسة؛ بل «خيار شمشون»؛ لأن قدرة الغرب التدميرية تفوق روسيا المزنرة حدودها بقوات «الناتو». أما خيار الصين فوارد؛ لأنَّ الصين ترى خسارة روسيا الحرب انقلاباً كبيراً في المعادلة الدولية، وعقبة في طريق صعودها؛ لذلك زادت الصين من نسبة تجارتها مع روسيا، لتتجاوز تجارتها مع الاتحاد الأوروبي بما يقارب 200 مليار يورو.
وانضمت روسيا إلى تحالفات تجارية تقودها الصين، وكسبت تأييد كثير من دول العالم النامي. بهذا التوجه المتعدد الأوجه تجاوزت روسيا الحصار الاقتصادي، وضمنت دعم دولة الصين العظمى، وكرست قدرتها على الاستمرار في المعركة، إنما من دون التمكن من نصر كاسح أو وضع تصور واقعي لنهاية الحرب بأقل الخسائر. فإصرار الرئيس بوتين على شروطه في وجه عزم الغرب على استنزافه يمثل مراهنة كبيرة على مستقبله. ويبدو أنه يراهن ليس على هزيمة الغرب عسكرياً؛ إنما هزيمته بسلاح زعزعة وحدته، ومنع تكتله ضده، وذلك لمعرفته بتبعات نتائج الانتخابات الأميركية، والتبدلات المجتمعية داخل الدول الأوروبية. هذا كله يجعله متيقناً بأن الانتخابات في الغرب ستشهد صعود أحزاب يمينية متشددة للسلطة، تجبر أوكرانيا على الاستسلام تحت شعار السلام والحفاظ على الأمن الأوروبي.
هذه الفرضية ممكنة جداً؛ لأنَّ الغرب لديه مشكلتان: أوروبية وأميركية. الأوروبية تتمثل في النيات الحقيقية بالالتزام العسكري لأوكرانيا؛ فالمراقب للموقف الأوروبي يرى الغرب متكاتفاً في المظهر ومختلفاً في الجوهر. فعندما قال ماكرون إنه «لن نسمح بهزيمة أوكرانيا ولو استدعى دخول قواتنا إلى أوكرانيا» كان الرد الأوروبي -وحتى الأميركي- واضحاً بأنَّ ذلك غير ممكن أبداً؛ بل إن حلفاءه مثل الألمان اتهموه بالازدواجية، ونصحوه هازئين بأن يتفضل ويسلِّح القوات الأوكرانية؛ وهذا بالضبط ما طالب به رئيس مجلس الأمن الأوكراني، عندما شكر ماكرون وقال له: «أعطنا السلاح ونحن ندافع عن أرضنا». ورد ماكرون على الألماني متهماً إياه بأنه متراخٍ، وهزأ به بتذكيره بتراخيه ومطالبته عند بداية الحرب بأن يقتصر العطاء على الخوذ العسكرية وفرش للنوم. كذلك توجد دول أوروبية أخرى تؤيد بوتين ضمناً، مثل المجر، وسلوفاكيا، وأخرى مترددة، ودول تتشدد مثل بريطانيا وبولندا وإستونيا.
هذه الصورة السريالية تكشف عن خلاف أوروبي حقيقي حول سقف المواجهة العسكرية الممكنة مع بوتين. كما أن الدول الأوروبية رغم شعورها بخطر الانتصار الروسي، فإنها غير قادرة سياسياً على رسم سياسة مستقبلية لتلك المواجهة في مرحلة ما بعد أوكرانيا؛ فأوروبا حتى الآن لم تتمكَّن معظم دولها من رفع سقف الإنفاق العسكري إلى 2.5 في المائة، بينما روسيا رفعت سقف الإنتاج خلال سنوات بوتين الأولى إلى ما يقارب 13 في المائة، والآن رغم الحصار فإنَّ إنفاقها يقترب من نسبة 5 في المائة.
وخلاف الغرب أبرز بوتين آيديولوجية قومية دينية شعارها رفض الليبرالية الغربية، معتبراً إياها مزيفة ومدمرة للأسرة وناسفة للقيم، وغريبة عن تاريخ روسيا. هذه الآيديولوجية البوتينية تجد هوى عند أحزاب اليمين الغربية، لدرجة أن إيطاليا المؤيدة لأوكرانيا يُعرَض فيها الآن فيلم روسي عنوانه «الشاهد» عن حرب أوكرانيا، يُصور الأوكران بأنهم نازيون ويرتكبون أعمالاً وحشية. ولعل الأخطر من كل ذلك عودة ترمب للسلطة، وتنفيذ ما وعد به بإعطاء بوتين ما يريد؛ بل السماح له بمهاجمة دول أوروبية، وبهذا ستتحلل منظومة «الناتو»، ويبرز عالم جديد، متعدد الأقطاب، ودون ربان.
هذا السيناريو ليس محتماً إنما ممكن، ولتجنبه لا بد من خسارة ترمب للانتخابات، وإلا فعلى الأوروبيين أن يتفقوا على المواجهة أو يقبلوا بتسوية مجحفة. والمواجهة هدفها ليس هزيمة روسيا؛ بل استنزافها لإرغامها على حل معقول، به ينجو العالم من خطر داهم.