السودان

خطوات إنهاء الحرب الأهلية في السودان

عملية وقف الحرب الأهلية فِي السودان، تعلو على أي أهداف سياسية أخرى ، ولا يجب أن تربط إبتداءاً بعملية تحقيق التحول المدني الديمقراطي.

إن ترتيبات إنهاء الحرب الأهلية الدائرة الآن في السودان تحتاج إلى خُطوات مُعقدة ومُتشابِكة ، ودائرية ولوابية، وليس بالضرورة إلى خُطوات خطية ومُستقيمة ومتتالية، وذلك لطبيعة الحرب السودانية نفسها، وتعقيداتها، وتعدد أطرافها الفاعلين المحليين، وتداخلاتها الخارجية، الإقليمية والدولية.

هناك قصة شعبية سودانية قديمة، عن مزارع سوداني بسيط كان يعيش في جزيرة نشب بها حريق هائل، وكان لديه خروف ومرفعين وبرسيم، ويريد نقلهم الثلاثة إلى الضفة الأخرى مِن النهر ك، خارج الجزيرة ، وبقارب صغير، لا يتسع إلا لشيئ واحد معه.

فهو لا يستطيع ترك البرسيم مع الخروف ، لأن الخروف سيأكله، ولا يستطيع ترك الخروف مع المرفعين، لأن المرفعين سيإكل الخروف ، فقرر أخذ الخروف معه فِي المرة الأولى، وترك البرسيم والمرفعين في الجزيرة.

ثم عاد المُزارع إلى الجزيرة مرة ثانية، وأخذ البرسيم مِن الجزيرة، وفي العودة الثالثة أخذ معه الخروف إلى الجزيرة مرة أخرى، وترك الخروف هناك، وعاد بالمرفعين.

في المرة الرابعة عاد المُزارع السوداني إلى الجزيرة ، وأخذ معه الخروف، وبذلك يكون قد نجا بهم جميعاً، وحل هذا الإشكال المُستعصِي ، بحكمته السودانية الفطرية.

كذلك هو حريق الحرب الأهلية السودانية ، يحتاج التعامُل الموضوعي مَعهُ، إلى إجراءات وترتيبات وخطوات مُعقدة، مثل تِلك الخطوات الحكيمة والصبورة، والتى قام بها هذا المُزارع السوداني البسيط، فِي حدود خِبرته الحياتية وبيئته المحلية.

كما أن الحل للأزمة السودانية الراهِنة، والمُتجلية فِي الحرب الكارثية ، يُمكن أن ينبع من داخل حدود الذاكرة الشعبية السودانية ، ومخزونها القيمي والمعرفي الهائل، وحِكمتها الفطرية المُتوارثة عبر الأجيال، وعلاقتها الأنثروبولوجية الوطيدة بالبيئة، وتفاعلاتها الإجتماعية الثقافية البينية، وجدلها التأريخي مع المادة.

مِن حيث المبدأ، فإن عملية وقف الحرب الأهلية فِي السودان، تعلو على أي أهداف سياسية أخرى ، ولا يجب أن تربط إبتداءاً بعملية تحقيق التحول المدني الديمقراطي، أو عملية تفكيك الإسلاميين، مِن الأجهزة العسكرية والأمنية ، لأن تلك العمليتين السياسيين لديهما مجال آخر تتحركان فيه ، وهو مجال النضال المدني السلمي الديمقراطي ، كما كان هو الحال في ثورتي أكتوبر ومارس/ أبريل ، وثورة ديسمبر المجيدة.

فك هذا الإرتباط التعسفي، والإشتباك الغير موضوعي، بين خروف التحول المدني الديقراطي للشعب السوداني، ومطالب تفكيك مرفعين الإسلاميين فِي الأجهزة الأمنية والعسكرية، مُهم وضروري للغاية، مِن أجل البدء الفوري فِي الترتيبات العملية لوقف الحرب الأهلية السودانية، والعبور بالسودان وشعبه إلى بر الأمان، ومِن ثم إلى رحابة الديمقراطية والتنمية.

في اعتقادي البسيط، أن هذه هي العقدة الأساسية فِي المنشار السياسي، لأننا إذا إستمرينا فِي ربط موضوع، عملية وقف الحرب الأهلية، بعمليتي تفكيك الإسلامين وتحقيق الديمقراطية، فسوف تستمر هذه الحرب السودانية إلى الأبد، ولن تتحقق فِي النهاية أي ديمقراطية.

كما أن هذا الموقِف السياسي التعسفي، يتجاهل بالكامِل موضوع التكلفة الإنسانية العالية، ومُعاناة الإنسان السوداني البسيط اليومية، والذي لن يقبل بهذه الحرب الجهنمية، كثمن لتحقيق التحول المدني والوصول إلى الديمقراطية.

لذلك فإن الموقِف الثوري الصحيح، والوطني السليم، هو إيقاف الحرب الأهلية الدائرة الآن، بأي ثمن، وتحت أي سقف سياسي مُنخفض، لتستمر بعد إيقاف الحرب عملية النِضال المدني السلمي الديمقراطي ، لاستكمال الثورة وتحقيق أهدافها السياسية والتنموية المرجوة.

على تنسيقية وتجمع القِوى المدنية الديمقراطية “تقدم”، أن تنأ بنفسها عن أي فصيل عسكري مُسلح مُعارِض، وأن تتفاوض مع حكومة الأمر الواقع فِي بورتسودان، بإعتبارها مُعارضة مدنية فِي الخارج فقط، وعلى حُكومة بورتسودان أن تتعامل مع تقدم بنفس هذه الصفة والكيفية السياسية.

كذلك على حُكومة الأمر الواقع فِي بورتسودان ، أن تتفاوض مع قوات الدعم السريع ، بإعتبارها قوات مناطِقية مُتمردة، مثلما تفاوضت الحكومات السودانية السابِقة، مع حركات دارفور وأنانيا والحركة الشعبية.

فِي إعتقادي أن نموذج إتفاقية نيفاشا عام ٢٠٠٥م ، ليس مثالياً، ولكنه هو الوحيد المُتوفِر الآن، ويمكننا البناء عليه، وتطويره إلى إتفاق سلام يحقِن الدماء، ويفتح الطريق لاحقاً مِن جديد، لعملية سياسية ديمقراطية مُوسعَة.

لذلك، نحن نحتاج الآن إلى عملية سلام شامل ، وبين طرفين مُتحاربين فقط، وليس إلى عملية سياسية مُوسَعة، والتى قد تأتي لاحقاً، وبالضرورة سيكون لها حساباتها وتكتيكاتها المرحلية.

كذلك يجب على تجمع القِوي المدنية والديمقراطية “تقدم”، أن يتعامل بإنفتاح مع تَحالُف الكتلة الديمقراطية المُوالى لإنقلاب ٢٥ أكتوبر، لأن الإنفتاح السياسيي الحكيم ، هو الوحيد القادِر على تعرية هذا التحالُف الهَّش ، وخلخلته مِن الداخِل سياسياَ وتنظيمياً.

في لعبة الضمنة الشهيرة، تحتاج أحياناً أن تعطي خصمك فرصة ومساحات للعب، حتى لا يقفِل الضمنة بكماء طرشا، وهو ما حدث عدة مرات في السابق، نتيجة لتصرفات قحت الصبيانية.

تحتاج تقدم الآن، أن تستفيد مِن أخطاء الماضي، وأن تفتح مساحات للغير للعب السياسي، وأن لا تلعب مجددا على ورقة وزريعة مُكافحة الإغراق السياسي، حتي لا تُعمِق مِن حالة الإنسداد السياسي، وما نتج عنها مِن حرب أهلية.

يُرَّكِز الخطاب الإعلامي المُناهِض للحرب ، على تفكيك خِطاب البلابسة الموالي والمُحرِّض للجيش السوداني ، ولكنه لا يدخل فِي مساحات تفكيك الخطاب الإعلامي التحريضي الموالي للدعم السريع، أو يقوم مُباشرة، بتوجيه خطاب إعلامي توجيهي راشد لِمقاتِلي الدعم السريع ، والذين يُهاجِمون القُرى والمُدن الآمنة.

ما هو شكل الخطاب الإعلامي الذي يتلقاه يومياً، مُقاتِل الدعم السريع، حتي يقوم بإستهداف المدنيين ومُمتلكلتهم المادية؟ وما هي تركيبة مُقاتلهم العقلية والسايكولوجية؟ .

لماذا هناك فزع قبلي بمئات الآلاف، مِن إقليم دارفور ، ويُهاجِم المدنيين يومياً فِي قُرى ولاية الجزيرة التي كانت آمنة؟ .

هل يتعامل جندي الدعم السريع ، مع مناطِق الشريط النيلي بإعتبارها كلها حاكورة قبلية مُعادية؟ كما تربى على ذلك السلوك البربري، في تعاملِه مع الحاكورات المُجاورة فِي دارفور سابقاً، وكما كان يقوم بحرق قرية كاملة فِي دارفور، مِن أجل بقرة أو ناقة مسروقة! .

نحن نحتاج الآن، أن ننتقِل مِن مرحلة إدانة السلوك اليومي لمقاتلي الدعم السريع، إلى مرحلة تفسير ذلك السلوك وتغييره، وتوجيه خِطاب إعلامي قوي لمقاتليهم فِي الميدان، وإيقاف المزيد مِن تحشيدهم القبلي المُستمر.

فِي مشهد مِن مشاهِد فلم “دكتور بارناثيوس”، إضطرت ابنته الصغيرة إلى الرَّقص مع الشيطان، وأغرته بأنها ستختار العبور مِن باب الجحيم، لتخدعه فِي النهاية وتعبر مِنه إلى باب الجنة والنعيم.
أن عملية الحوار والتفاهم، والمُناورة مع الإسلاميين، فِي هذه المرحلة المفصلية، والتوقيت الحَرِج؟ مُهِمة وضرورية للغاية، مِن أجل إيقاف الحرب الأهلية، وتحقيق الغايات الإنسانية النبيلة، وإنهاء معاناة الشعب السوداني، والعبور به مِن جحيم الحرب إلى جنات النعيم.

الإسلاميين لم يعودوا ذلك البعبع الذي يُخِيف ، كما كانوا فِي عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، وليس لديهم الآن كوادِر مُؤهلة لحكم كُل السودان، وليس لديهم قُدرة الآن على تأسيس دولة دينية شمولية لصالحهم وحدهم ، حتي لو حسم الجيش السوداني هذه المعركة لصالِحه بالكامِل عسكرياً.

إنتصار الجيش عسكرياً، لا يعني أوتموماتيكياً العودة للديكتاتورية وإنفراد الإسلاميين بالسُلطة، ولكن النصر العسكري الكامِل للجيش غير وارد أصلاً، على الأقل فِي العشرة أعوام القادِمة.

يحتاج الفريق البرهان الآن، أن يُشكِل حكومة مدنية مِن حلفائه السياسيين، لِتُعبِّر هذه الحكومة عن توازنات القِوى الحقيقية، للمجموعات السياسية المُتناثِرة الموجودة حوله، ويخلق فِي النهاية مِن هذه الفسيفساء، كُتلة سياسية مُتجانِسة.

لتقوم حكومة الأمر الواقِع فِي بورتسودان، بعد ذلك بالتفاوض السياسي مع الكتلة المدنية فِي تقدم، والتفاوض العسكري مع الدعم السريع، كُل على حدة وهو امر يحتاج إلى حكومة قوية رشيقة، وذات أجهزة إدارية متعددة، ولديها مطبخ سياسي فعال وذكي.
لا ينبغي لحكومة بورتسودان، أن تُسلِم دفة قيادتها السياسية والأمنية والعسكرية، لإبتزازات ونعيق الرَّكانة فِي الأجهزة الإعلامية وصُراخ وردحي اللايفاتية اليومي ، ويجب عليها أن تقوم بأدوارها القيادية ، وأن تجعل مِن الإعلام الحربي ، مُتغير مُنضبِط تابِع لها ، وأن لا تتبع له.

نحن نحتاج الآن، إلى لملمة السودانيين ، وإلى تصفير العداد السياسي السوداني، والعودة بالجميع إلى حالة ضبط المُصنِع، لأن جميع المُمارسات السياسية السابِقة الغير رشيدة، وغير حكيمة، هي ما أدت بنا جميعاً إلى حالة البلكنة والإنسداد السياسي، وما نتج عنها مِن حرب أهلية شامِلة.

فِي اعتقادي المُتواضِع، أنه بإمكاننا كسودانيين، وبجهدنا الذاتي الخالِص، وبحكمتنا المحلية الموروثة عبر آلاف السنوات، وبدون أي وساطة خارجية مِن إحد ، الخروج مِن مُستنقع الحرب الأهلية ، والعبور ببلادنا إلى بر الأمان والإستقرار، تماماً كما فعل ذلك المُزارع السوداني البسيط.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى