خطاب الرئيس عباس وتسوية الصراع عبر بوابة القانون الدولي
خاطب أبو مازن المجتمع الدولي بلغة يفهمها الجميع هي لغة القانون الدولي. وقد استطاع بهذا الخطاب الواضح والبديهي سحب البساط من تحت القوى التي تنكر الحق الفلسطيني.
مخاطبة المجتمع الدولي فرصة لا تتكرر كثيرا من أجل تعريف شعوب العالم بعدالة القضية الفلسطينية. والرئيس أبو مازن حريص كل الحرص على الإفادة القصوى من هذه الفرصة. في كل مرة يخاطب فيها الرئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة يحقق مكسبا ونصرا جديدا في الساحة الدولية يصب في خدمة القضية العادلة للشعب الفلسطيني.
اللافت أن خطاب الرئيس الأخير، وفي هذا المنعطف الخطير الذي تعيشه القضية الفلسطينية، قد انتشل القضية الفلسطينية من الغرق في بحر النسيان والتجاهل والتضليل. ومن اللافت أيضا أن هذا الخطاب قد حقق أهدافه في إعادة القضية الفلسطينية للصدارة على الصعيد السياسي والإعلامي والإنساني. ويمكن عدّ هذا الخطاب وثيقة متكاملة جمعت الخيوط الرئيسية لهذه القضية العادلة من جوانبها كافة. وقد وظف الرئيس العناصر القانونية والتاريخية من أجل وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
عانت القضية الفلسطينية خلال تاريخها من سوء فهم من قبل المجتمع الدولي بسبب الممارسات غير الكفؤة في شرح أبعاد هذه القضية. ولا نخفي سرا إذا قلنا أن سوء الفهم هذا ناجم بالدرجة الأساس عن نقص خطير في الوسائل والمنهجيات والوثائق. لقد أثبت الرئيس أبو مازن في خطابه الأخير قدرته على دحض كافة الحجج الواهية التي يسوقها الإسرائيلي من أجل إثبات روايته الزائفة في الجغرافيا والتاريخ الفلسطيني. إن كل ما طرحه الرئيس في خطابه كان مدعّماً بالوثائق التاريخية والسياسية، حيث تم توزيعها مسبقا على الوفود المشاركة في اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة.
لقد لفت الرئيس أنظار كافة المشاركين بحرفيته العالية في طرح القضية من على هذا المنبر الاممي. لا نبالغ إذا قلنا أننا حققنا نصرا سياسيا ودبلوماسيا على الآخر الإسرائيلي الذي وجد نفسه معزولا بشكل غير مسبوق. ونحن على ثقة أن هذا الخطاب التاريخي سيكون له تداعياته وارتدادته على الساحة الدولية، لأنه وظف سلاح الوثيقة بالإضافة لسلاح القانون والذي لا يستطيع أي كان إنكاره. لكل هذه الأسباب مجتمعة، فإننا نقترح أن يتحول هذا الخطاب إلى ورقة عمل ملزمة للدوائر السياسية والدبلوماسية الفلسطينية في المرحلة المقبلة.
خاطب الرئيس أبو مازن الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والسبعون بالبديهيات التي لا يستطيع أي عاقل إنكارها، واستطاع بذلك تعرية المعايير المزدوجة والمنطق المغلوط الذي تتعامل به الدول الغربية الداعمة لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. وأوضح الرئيس في خطابه أن سياسة مجلس الأمن الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، كان يسير طوال العقود الماضية عكس منطق التاريخ. كما لم يطلب الرئيس لشعبه أمراً استثنائيا أو مستحيلاً، بل طلب أن يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه كبقية شعوب العالم. فمن حق شعبنا أن يكون له دولة أسوة بدول العالم البالغة 193 دولة.
لقد كشف خطاب الرئيس أبو مازن عن مصدر التوتر في منطقة الشرق الأوسط والذي بات يهدد الاستقرار والسلم العالمي، وهو الظلم والإرهاب الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني على مدار ما يربو على السبعة عقود. ويبدو الرئيس هنا محقا حين يعلن استنكاره للسياسة غير العادلة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني من قبل المتنفذين في مجلس الأمن.
ففي الوقت الذي تم فيه تصفية جميع البؤر الاستعمارية في العالم وحصول جميع شعوب العالم على استقلالها وحريتها، فإن الأمر بالنسبة لفلسطين يسير بشكل معكوس، حيث تزداد البؤر الاستيطانية يوما بعد يوم، وما يترافق مع هذا التوسع الاستيطاني من عنف وإرهاب يمارسه المستوطنون مدعومين بجيش الاحتلال ضد الفلسطينيين العزل.
لم يطالب أبو مازن المجتمع الدولي بالمستحيلات أو بما هو غير قابل للتحقق، بل طالبه بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وليس أكثر من ذلك. لقد خاطب أبو مازن المجتمع الدولي بلغة يفهمها الجميع هي لغة القانون الدولي. وقد استطاع بهذا الخطاب الواضح والبديهي سحب البساط من تحت القوى التي تنكر الحق الفلسطيني، وطعن بشرعية دولة إسرائيل التي قامت عام 1949 وفق شروط وقعت عليها وهي تطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بعودة اللاجئين والتقسيم. لقد قالها الرئيس عباس بكل جرأة ودون مواربة، إن إسرائيل غير جديرة بعضوية الأمم المتحدة لأنها لا تعترف بقراراتها.
إن الدولة، أي دولة، هي عبارة عن مجتمع بشري له روحه الخاصة التي تميزه عن المجموعات البشرية الأخرى، وإن أي مجموعة بشرية متميزة ينطبق عليها مفهوم الشعب يحق لها أن تكون لها دولة خاصة بها، ولا يجوز دمج هذه الدولة مع دولة أخرى، لان هذا الدمج يؤدي إلى اقتلاع وجودها من حيث هي كيان معنوي وتحويلها إلى مجرد شيء. وبناء على هذا التصور فانه لا يجوز لأي دولة مستقلة صغرت أو كبرت أن تستحوذ على دولة أخرى لا بالميراث، ولا بالمبادلة ولا بالهبة ولا بالشراء، لان روح هذا الشعب المسحوقة لن تفنى، وسوف تبقى في حالة صراع وكفاح لاستعادة كيانها وتفردها، وهذا سيشكل تهديدا دائما للسلام العالمي.
لقد كان هذا المبدأ هو أحد المبادئ التي وضعها الفيلسوف العظيم عمانوئيل كانط في كتابه ” من أجل السلام الدائم” والذي استند إليه فقهاء القانون في وضع الدستور الأولي لعصبة الأمم. وخير مثال نسوقه على صحة هذا المبدأ ما حصل من مصادرة حق الشعب الفلسطيني في أن يكون له دولة مثل باقي شعوب العالم. لقد أقدمت بريطانيا على تقديم أرض فلسطين كهبة وألغت كيان الشعب العربي الفلسطيني، ما ولّد صراعا متفجرا على مدار القرن المنصرم.