خطاب إيراني مطمئن لمصر
لم تكن رسائل إيران الإيجابية لمصر متمثلة في عدم المساس بمصالحها، بل في توظيف القاهرة لبعض تصرفات طهران لتأكيد حاجة الإقليم إلى دولة وازنة ومعتدلة، في ظل التجاذبات العنيفة بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، والتي أخذت شكلا عسكريا يمكن أن تترتب عليه تداعيات مؤلمة.
كشفت مكالمة هاتفية جرت بين وزيري خارجية مصر سامح شكري وإيران حسين أمير عبداللهيان قبل أيام عن توافق في مقاطع كثيرة بينهما بشأن ما يجري في قطاع غزة وجنوب البحر الأحمر، من زاويتي وقف الحرب وإدخال المساعدات في الأولى، وعدم الرغبة في التصعيد أو تهديد الملاحة في الثانية، وهي رؤية مطمئنة لمصر وتشير إلى رغبة إيران في التأقلم مع المعطيات الإقليمية ومحاولة تقديم نفسها كدولة يمكنها أن تكتسب مصداقية في المنطقة.
قد يحتار الناظر إلى السياسة الإيرانية التي تتبنى توجهات مزعجة لمصالح بعض الدول وتسعى إلى تطوير علاقاتها مع قوى رئيسية في المنطقة، وتحتضن ميليشيات وجماعات مسلحة وتريد الاستقرار في الإقليم أيضا، وتتوقف تصورات كل دولة على الزاوية التي تنظر من خلالها إلى طهران، فإذا كانت مشاغبة وصاحبة أذرع مسلحة تنفذ أهدافها فهي مرفوضة ومنبوذة، وإذا كانت الزاوية إيجابية، أي حريصة على تطوير علاقاتها وتوفير الأمن والاستقرار فهي مقبولة ويمكن التعايش معها.
تملك طهران أكثر من وجه سياسي، وأحيانا تتعامل بها جميعا، فتظهر التهديدات والتوافقات، والعنف والهدوء، والغطرسة والرشادة، وهذه الأشكال أحدثت تباينا في آليات التعامل معها من قبل الدولة الواحدة، فقد تدخل معها في خلاف حول قضية وانسجام في أخرى، ومكنت سياسة الأدوات المتعددة إيران من الحفاظ على قدر من التفاهم مع دول عدة، وحالت دون انزلاقها في أزمات معقدة، وجعلت من شكل علاقتها مع مصر مثلا محافظا على درجة جيدة من الهدوء، على الرغم من امتلاكهما رؤى مختلفة في التعامل مع عدد من القضايا الإقليمية.
أبدت إيران استعدادا واضحا لتطوير العلاقات مع مصر، وتجاوبت معها الأخيرة الفترة الماضية، وانعكس التقارب بينهما في تزايد اللقاءات الرسمية وشبه الرسمية والمحادثات التي تجري بين وزيري خارجية البلدين، وأظهر كل جانب حرصا لافتا على عدم العودة إلى الصفحة القاتمة السابقة، ومحاولة تصفية الملفات الخلافية تدريجيا ومن دون ضجيج، لأن رفع العلاقات إلى المستوى السياسي الطبيعي لا يزال محكوما بتوازنات إقليمية ودولية، وتباعدات أمنية بحاجة إلى إزالة ما تبقى من شوائب فيها.
قدمت طهران رسائل تطمين عديدة للقاهرة، التي استقبلتها بترحاب وتفاعلت مع أجزاء كبيرة فيها، قادتها إلى المستوى الإيجابي الذي وصلت إليه حاليا، وظهرت تجلياته في تفاهمات حول بعض القضايا، بينها ملفات تتبنى فيها إيران مواقف لا تتماشى مع المصالح المصرية المعلنة، ويمكن أن تفضي احتكاكاتها مع إسرائيل مباشرة أو عبر وكلائها إلى حرب إقليمية واسعة، تبذل القاهرة جهودا للحيلولة دون الوصول إليها.
نجحت السياسة الإيرانية في تحسين علاقاتها مع كل من السعودية والإمارات ومصر، وتخلت عن جزء من التصرفات التي تقلقها، وأبدت مرونة لتخفيف وطأة بعض توجهاتها، وهو البعد الذي أدى إلى فتح المجال لتحسين علاقات الدول الثلاث معها، وظفته القاهرة مبكرا في الحفاظ على منسوب معتدل في العلاقات، لا يصل إلى الحرارة المرتفعة التي تشير إلى تناغم أو إلى البرودة المنخفضة التي تفضي إلى صدام.
تبتعد القيادة المصرية الراهنة عن الوصول إلى أي من المستويين، ورأت في ما يعرف بـ“المنطقة الدافئة” حلا مريحا لها ولإيران، فكل المحادثات والرسائل المتبادلة مباشرة أو من خلال وسطاء لم تتمكن من تفكيك العقد المركزية في العلاقات المشتركة، واكتفت طهران بتوصيل إشارات مطمئنة للقاهرة على مراحل، على أمل أن تفتح الثانية قلبها تماما وتصفي ما تبقى من ملفات عالقة، تستثمر إيران نتائجها في الإيحاء بأنها دولة رشيدة، وتملك علاقات مع أبرز دولة تظهر اعتدالا في تصوراتها.
تسير القاهرة على حبل مشدود في علاقاتها مع طهران، وتحرص على عدم قطعه ومن ثم الدخول في دوامات من المناوشات، أو تمتينه بصورة كبيرة يساء فهمها من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية، ولجأت إلى صيغة تمكنها من الحفاظ على مصالحها الحيوية، ظهرت نتائجها في السنوات الماضية، ولم تلجأ إيران أو أي من أذرعها المعروفة في المنطقة إلى الإضرار مباشرة بالمصالح المصرية.
إذا كانت الممارسات الأمنية التي تقوم بها جماعة الحوثي المدعومة من إيران تمثل تهديدا للملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن وممر قناة السويس، فالتعامل المصري معها بدا هادئا، ولم تنخرط القاهرة في الترتيبات الغربية لتقويض عمليات الحوثيين، في حين أن عملياتهم تسببت في خسارة نحو 50 في المئة من إيرادات قناة السويس منذ بداية العام الجاري.
لعب التحسن في العلاقات بين مصر وإيران دورا مهما في حصر استهداف الحوثيين للسفن الذاهبة إلى إسرائيل، وأحيانا التابعة لقوى غربية، ولم تكن مصر هدفا في أي وقت، منذ ظهور جماعة الحوثي كقوة عسكرية في جنوب البحر الأحمر قبل سنوات، ربما لأن إيران لا تريد المزيد من الخصوم أو أنه من المهم تحييد دولة مركزية تستطيع إلحاق أضرار عسكرية بالغة بقوة الحوثيين.
لم يستثن الخطاب الإيراني المطمئن لمصر أحدا من أذرع طهران في المنطقة، وكل الضربات التي وجهت إلى إسرائيل بعد اندلاع الحرب على غزة كانت بعيدة عن الأراضي المصرية، وما سقط عليها من حطام صواريخ أو طائرات مسيرة كان مسارها الرئيسي إسرائيل، ما يؤكد الحرص على تجنب إحراج القاهرة أو استفزازها، وهي التي اتخذت من ضربات الحوثيين حجة لتعزيز رؤيتها بشأن صعوبة السيطرة على نطاق حرب يمكن أن ينفلت عقالها وتصبح حربا إقليمية، لإجبار إسرائيل على وقف ضرباتها واجتياحها لقطاع غزة، وحث الولايات المتحدة وقوى أوروبية على ممارسة ضغوط كبيرة على إسرائيل.
مع كل الأضرار التي يمكن أن تكون سببتها أذرع إيران في المنطقة والقلق المصري من تغولها في بعض الدول العربية، غير أن وجود جماعات تابعة لإيران، بما فيها حماس والجهاد الفلسطينيتين، قد خفف ضغطا من نوع آخر على القاهرة وجنبها مأزقا كان يمكن أن يواجهها لو التزمت الجماعات والميليشيات الصمت، ما يضع مصر أمام خيارين صعبين، أحدهما القبول بتغلغل إسرائيل في المنطقة العربية، والذي ظهرت مؤشراته قبل حرب غزة، أو التصدي لها بأدوات عسكرية بعد الحرب، وكلاهما غير مناسب لمصر وهي دولة تواجه تحديات إقليمية مصيرية.
لم تكن رسائل إيران الإيجابية لمصر متمثلة في عدم المساس بمصالحها، بل في توظيف القاهرة لبعض تصرفات طهران لتأكيد حاجة الإقليم إلى دولة وازنة ومعتدلة، في ظل التجاذبات العنيفة بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، والتي أخذت شكلا عسكريا يمكن أن تترتب عليه تداعيات مؤلمة.