خصخصة المياه.. سياسة تنتهك حقوق الفقراء وتعمق الفجوة الاجتماعية
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه العالم اليوم، تأتي قضية إدارة المياه كواحدة من أبرز المسائل التي تتطلب حلاً مستداماً وشاملاً، مع تزايد الطلب على موارد المياه العذبة، تتفاقم الضغوط على الحكومات والشركات لإيجاد سبل لإدارة هذه الموارد المحدودة.
أحد الحلول التي اختارتها العديد من الدول هو خصخصة قطاعات المياه، وهي خطوة تتسم بالكثير من الجدل، خاصةً في ظل تعارضها مع مفهوم المياه كحق من حقوق الإنسان، وخصخصة المياه تعني تسليم إدارة وتوزيع هذا المورد الحيوي إلى الشركات الخاصة، وذلك غالبًا بحجة تحسين الكفاءة، وزيادة الاستثمارات، وتطوير البنية التحتية.
لكن الواقع أثبت أن هذا النهج لا يخلو من عواقب وخيمة، خاصة على الفئات الأكثر ضعفًا… إذ تشير تجارب متعددة حول العالم إلى أن خصخصة المياه تؤدي في كثير من الأحيان إلى حرمان العديد من السكان من الوصول إلى المياه بأسعار معقولة، ما يثير تساؤلات حول مدى ملاءمة هذا النهج لتحقيق العدالة المائية.
وفي تقريره المقدم لمجلس حقوق الإنسان خلال الدورة الـ57 في جنيف، تناول المقرر الخاص المعني بحق الإنسان في مياه الشرب المأمونة والصرف الصحي، بيدرو أروخو–أغودو، قضية إدارة المياه من منظور حقوق الإنسان.
ركز التقرير على أهمية الترويج لنهج قائم على حقوق الإنسان في إدارة المياه، وهو ما يتطلب إعطاء الأولوية للاستخدامات التي تحافظ على الحياة وتحترم كرامة الإنسان، المقرر الخاص شدد على ضرورة تضمين حق الحصول على مياه الشرب والصرف الصحي كحق أساسي من حقوق الإنسان، هذا النهج الذي أطلق عليه “الماء من أجل الحياة” يعكس أهمية المياه ليس فقط كمورد اقتصادي، ولكن كعنصر حيوي للحفاظ على الحياة والصحة والكرامة الإنسانية.
لكن التوجه العالمي نحو خصخصة المياه، وخاصة في دول مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، والهند، وبعض الدول الإفريقية يهدد بتعميق الفجوة بين من يمكنهم الوصول إلى المياه ومن لا يستطيعون تحمل تكاليفها.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن نحو 2.2 مليار شخص حول العالم لا يحصلون على مياه شرب مأمونة، بينما يعاني 4.2 مليار شخص من نقص في خدمات الصرف الصحي الآمنة، هذه الأرقام تشير إلى حجم المشكلة العالمية المتعلقة بإدارة المياه، وتسلط الضوء على الفئات الأكثر تضرراً من السياسات التي تضع الربح فوق الاحتياجات الإنسانية.
في دول مثل بوليفيا، أثبتت خصخصة المياه أنها أكثر كارثية مما توقعت الحكومة، في أواخر التسعينيات، عندما خُصخصت المياه في مدينة كوتشابامبا، وارتفعت أسعار المياه بشكل هائل، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية واسعة عرفت بـ”حرب المياه”.
أظهرت هذه التجربة بوضوح أن الخصخصة لا تحقق دائمًا أهدافها المعلنة بتحسين الخدمة أو تقليل التكاليف بل على العكس، أدت إلى تهميش الفئات الأكثر فقراً وجعلت الوصول إلى المياه يعتمد بشكل مباشر على القدرة المالية للأفراد.
في العديد من الحالات، تُستخدم حجة تحسين الكفاءة الاقتصادية لتبرير خصخصة المياه، تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) يُشير إلى أن العالم سيحتاج إلى استثمارات سنوية تصل إلى 1.7 تريليون دولار في قطاع المياه والصرف الصحي بحلول عام 2050، لكن هذه الاستثمارات، التي يُزعم أنها ستأتي من القطاع الخاص، غالبًا ما تخدم مصلحة الشركات والمستثمرين أكثر من خدمة العامة.
المقرر الخاص أروخو–أغودو في تقريره أشار بوضوح إلى أن الاعتماد الكامل على السوق لإدارة المياه لا يمكن أن يلبي الأولويات الأخلاقية واحتياجات حقوق الإنسان السوق، وفقًا له، لا ينبغي أن تكون الأداة الأساسية لإدارة المياه، المياه يجب أن تُدار كمنفعة عامة، متاحة للجميع، وليست ملكًا للقطاع الخاص.
يشير أروخو إلى أن النظم الإيكولوجية التي توفر المياه هي تراث طبيعي مشترك يجب الحفاظ عليه للأجيال القادمة، هذا النهج يتناقض مع النموذج الليبرالي الجديد الذي يرى في المياه سلعة تجارية تخضع لمنطق العرض والطلب.
في دول مثل فرنسا، التي لطالما اتبعت نهج الشراكة بين القطاعين العام والخاص في إدارة المياه، تراجع هذا النموذج بعد أن أثبت فشله في باريس، على سبيل المثال، بعد عقود من الخصخصة، أعادت السلطات في عام 2010 السيطرة على خدمات المياه إلى القطاع العام.
السبب كان ارتفاع الأسعار وضعف جودة الخدمات، وهو ما جعل المواطنين يطالبون بإعادة الخدمات إلى أيدي الحكومة، هذه التجربة تؤكد أن خصخصة المياه لا تحقق دائمًا ما يعد به المدافعون عنها، بل قد تؤدي إلى زيادة الأعباء على المواطنين، خاصة الفقراء.
من جهة أخرى، تشير الإحصائيات الحديثة إلى أن العديد من الدول الإفريقية شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار المياه بعد خصخصة القطاع.
وفقًا لتقرير صادر عن “أوكسفام” في عام 2022، فإن واحدة من كل ثلاث دول إفريقية قد شهدت زيادة في أسعار المياه، خاصة في المناطق الحضرية، هذه الزيادات جعلت من الصعب على العديد من الأسر الفقيرة الحصول على مياه شرب آمنة.
وفي مواجهة هذه التحديات، تقدم ألمانيا نموذجًا بديلاً ناجحًا، فالحكومة الألمانية ترفض خصخصة المياه وتدير الخدمات المائية عبر البلديات، هذا النهج القائم على الإدارة العامة والمستدامة نجح في توفير مياه عالية الجودة بأسعار معقولة، ما يثبت أن القطاع العام قادر على تقديم خدمات فعالة وعادلة دون الحاجة إلى تسليم الموارد الحيوية للقطاع الخاص.
المياه، بوصفها حقًا من حقوق الإنسان، يجب أن تكون متاحة للجميع بدون تمييز، ومنظمة الأمم المتحدة تشير إلى أن الحد الأدنى الذي يحتاجه الفرد يوميًا هو 20-50 لترًا من الماء لتلبية احتياجاته الأساسية ومع ذلك، فإن السياسات التي تعتمد على خصخصة المياه قد تحرم العديد من الناس من الوصول إلى هذه الكميات الضرورية، ما يؤدي إلى انتهاكات لحقوقهم الأساسية في الحياة والصحة.
على الرغم من كل التحديات التي تواجه قطاع المياه، لا يزال من الممكن إيجاد حلول مستدامة قائمة على حقوق الإنسان، يجب أن تلتزم الحكومات بضمان أن تكون المياه متاحة بشكل عادل للجميع، وأن تبنى سياسات تحترم حقوق الإنسان وتضمن الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية.
ويرى خبراء أن الاستثمارات في قطاع المياه يجب أن تركز على تحسين الوصول إلى المياه للجميع، وليس فقط على تحقيق أرباح للشركات، فالاعتماد على القطاع الخاص قد يوفر حلولًا قصيرة الأمد لبعض المشكلات الاقتصادية، لكنه غالبًا ما يؤدي إلى تعميق التفاوتات الاجتماعية وإضعاف حقوق الإنسان الأساسية، فالمياه ليست سلعة يمكن التعامل معها على أساس الربح والخسارة، بل هي حق أساسي من حقوق الإنسان يجب حمايته وضمان استدامته للأجيال الحالية والمستقبلية.
فمستقبل المياه يعتمد على القرارات التي نتخذها اليوم، ويجب أن تكون هذه القرارات مبنية على مصلحة البشر والبيئة على حد سواء، وليس على مصالح الأسواق المالية والشركات.
انتهاك حقوق الفقراء وتعميق التمييز الاجتماعي
وفي السياق، قال الخبير الاقتصادي والأكاديمي، رشاد عبده، إن خصخصة قطاع المياه من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات المحلية، وخاصة الطبقات الفقيرة، لما تخلّفه من آثار اجتماعية واقتصادية عميقة تتعدى حدود القدرة على الوصول إلى هذا المورد الحيوي، وعندما تتحول المياه إلى سلعة خاضعة لمنطق السوق، يصبح الحق في الحصول عليها مرهونًا بقدرة الفرد على الدفع، مما يعمق الفوارق الاجتماعية ويهدد أسس العدالة والكرامة الإنسانية.
وتابع في تصريحاته لـ”جسور بوست”: الطبقات الفقيرة هي الأكثر تضررًا من سياسات الخصخصة، إذ تؤدي هذه السياسات إلى ارتفاع أسعار المياه بشكل كبير، مما يزيد الأعباء المالية على الأسر ذات الدخل المحدود، وهذه الأسر تجد نفسها مضطرة لتقليل استهلاكها من المياه أو اللجوء إلى مصادر غير آمنة، ما يفاقم الأوضاع الصحية ويؤدي إلى انتشار أمراض منقولة عبر المياه، مثل الكوليرا والإسهال، التي تستهدف الفئات الأضعف وتزيد من تكاليف الرعاية الصحية، مفاقمة بذلك الفقر.
اقرأ أيضا.. حروب الشرق الأوسط من أجل الوصول إلى نهاية العالم
واسترسل موضحا أن النقص في المياه النظيفة لا يقتصر على الجوانب الصحية فقط، بل يمتد إلى تأثيرات اجتماعية أوسع، حيث يؤدي إلى تفاقم الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وبينما تتمكن العائلات الميسورة من تحمل تكاليف المياه، تصبح الطبقات الفقيرة أكثر عزلة وتهميشًا، ما يخلق نوعًا من الانفصال الاجتماعي ويعمق الشعور بالظلم بين فئات المجتمع، ويزداد هذا التباين وضوحًا في المجتمعات الريفية التي تعتمد على المياه في أنشطتها الزراعية، حيث يؤدي ارتفاع أسعار المياه إلى تراجع المحاصيل الزراعية وانخفاض الدخل، مما يهدد الأمن الغذائي ويرفع معدلات سوء التغذية، خاصة بين الأطفال.
وذكر أنه في ظل سياسات الخصخصة تتحول المياه من مورد عام يضمن حقوق الجميع إلى سلعة اقتصادية يتحدد الوصول إليها بناءً على العرض والطلب… يؤدي هذا التحول إلى زيادة التوترات والصراعات المحلية على المياه، خاصة في المناطق التي تعاني أصلًا من شح الموارد، ما يفتح الباب أمام نزاعات داخلية قد تتطور إلى عنف مجتمعي يهدد الاستقرار.
وأتم: تتسبب خصخصة المياه في إعادة صياغة العلاقة بين الفقراء والموارد الأساسية، ما يزيد من تهميش الطبقات الضعيفة ويعمق الفوارق الاجتماعية، بدلاً من تحسين جودة الحياة عبر تطوير البنية التحتية، تخلق الخصخصة نظامًا تمييزيًا لا يراعي حقوق الإنسان الأساسية، وبالتالي، فإن ضمان الوصول إلى المياه كحق وليس كامتياز يجب أن يكون جزءًا من السياسات العامة لتحقيق مجتمع عادل ومستدام يحترم حقوق الفئات الضعيفة ويحميها من الاستغلال الاقتصادي.
التنمية المستدامة وحقوق الفقراء
وقال الخبير الاجتماعي، الدكتور طه أبو حسين: الخصخصة باعتبارها نهجاً اقتصادياً يستهدف تحسين كفاءة الموارد عبر إدارتها بمنطق السوق، تحمل تأثيرات متباينة على التنمية المستدامة في الدول النامية، وفي الوقت الذي يُعتقد فيه أن الخصخصة قد تحسّن من كفاءة توزيع الموارد وتقلل من الهدر، فإنها تحمل أيضاً مخاطر تهدد العدالة الاجتماعية وتضعف فرص الفئات الأكثر فقراً في الوصول إلى الموارد الأساسية مثل المياه.
وتابع في تصريحاته لـ”جسور بوست”: في العديد من الدول النامية، تعتمد شرائح واسعة من السكان على الموارد العامة التي تديرها الحكومات، حيث تُعتبر المياه من بين أكثر الموارد أهمية، عند خصخصة قطاع المياه، تتحول إدارة هذا المورد إلى مؤسسات خاصة تهدف إلى تحقيق الربح، مما يؤدي عادة إلى ارتفاع تكاليف المياه، هذا الوضع يضع ضغطاً هائلاً على الفئات الفقيرة التي لا تستطيع تحمل تكاليف مرتفعة، ما يؤدي إلى حرمانها من الوصول إلى مياه نظيفة وآمنة، هذا الحرمان لا يقتصر على التأثيرات المباشرة المتعلقة بالصحة، بل يمتد ليشمل جوانب أخرى مثل التعليم والعمالة، إذ يؤثر نقص المياه على قدرة الأفراد على المشاركة الفاعلة في المجتمع والاقتصاد.
واسترسل: من ناحية التنمية المستدامة، الخصخصة قد تعيق تحقيق توازن بين تلبية احتياجات الأجيال الحالية والحفاظ على الموارد للأجيال القادمة، في ظل خصخصة قطاع المياه، يبرز التحدي في كيفية ضمان استدامة هذا المورد الحيوي، فالشركات الخاصة تركز في المقام الأول على تحقيق أرباح سريعة، ما قد يؤدي إلى استغلال مفرط للمصادر المائية دون مراعاة للاحتياجات المستقبلية، وتصبح استدامة الموارد مهددة، حيث قد يؤدي الإفراط في الاستهلاك إلى تدهور النظم البيئية وتقليص احتياطيات المياه المستقبلية.
وأوضح أن تحقيق التوازن بين توفير المياه للأجيال الحالية والحفاظ عليها للأجيال القادمة يتطلب نهجاً شاملاً يستند إلى مبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويجب أن تلعب الحكومات دوراً محورياً في هذا الإطار، من خلال وضع تشريعات تحمي حقوق الأجيال القادمة في الحصول على المياه، وضمان أن تكون السياسات الاقتصادية المتعلقة بالمياه متوافقة مع مبادئ التنمية المستدامة، بمعنى آخر، لا يمكن ترك إدارة الموارد المائية لمنطق السوق وحده، بل يجب أن تتدخل الدولة لضمان استدامتها وتوفيرها بشكل عادل بين جميع أفراد المجتمع.
وأكد ضرورة التركيز على تقديم حلول بديلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، منوها بأن باحثين اقتصاديين في مجال مكافحة الفقر يشيرون إلى أهمية تبني سياسات شاملة تتضمن برامج الدعم الاجتماعي لتحسين فرص الوصول إلى الموارد للفئات المحرومة، وهذه البرامج قد تتضمن توفير المياه بأسعار مدعومة أو مجاناً للفئات ذات الدخل المحدود، وكذلك تقديم استثمارات حكومية في تطوير بنية تحتية مائية مستدامة تضمن وصول المياه للجميع بشكل متساوٍ.
واستطرد: من الحلول التي قد تسهم في تحقيق التوازن أيضاً تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في إدارة الموارد المائية، في إطار هذا التعاون، يمكن للشركات الخاصة أن تستفيد من الكفاءة الاقتصادية في إدارة الموارد، بينما تضمن الحكومات الحفاظ على استدامة المياه وحماية حقوق الفئات الفقيرة، هذا النهج يتيح توظيف التكنولوجيا والابتكار في تحسين توزيع المياه وتقليل الهدر، مع ضمان عدم تحوّل المياه إلى سلعة يتعذر الوصول إليها.
وأتم: تحقيق التوازن بين الخصخصة والتنمية المستدامة يتطلب اتباع نهج اقتصادي أخلاقي يقوم على مبادئ العدالة والمساواة، ويضمن أن يكون لكل فرد الحق في الوصول إلى الموارد الأساسية مثل المياه، ويتعين على الدول النامية أن تتبنى سياسات تضع مصلحة المجتمع على رأس الأولويات، وأن تتعاون مع جميع الأطراف المعنية لتحقيق هذا الهدف.. بهذه الطريقة، يمكن تحقيق تنمية مستدامة تضمن حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية على حد سواء.