حوارات «طوفان الأقصى» التي لم تبدأ
قدّم بعض المثقّفين والباحثين رؤيته لتأثيرات الحدث في المستقبل القريب والبعيد، ومنهم من التقط بعض النقاط من هنا أو هناك، ومنهم من قدّم رؤيته عبر نظر تاريخي ممتد للحدث يربطه بالحروب الصليبية، وهناك من وضعه في سياق الأزمة التي تمرّ بها الرأسمالية الدولية وامتداداتها النيوليبرالية في الإقليم
أتطلع في هذا المقال للتذكير بأهمية بدء حوار جماعي ممتدّ حول التداعيات الإستراتيجية لـ”طوفان الأقصى” علينا في المنطقة. هذا الحوار أظنّه حالًا وضروريًا، وفي تقديري أنه تأخر برغم انشغالنا بمتابعة الحدث ومآسيه التي تضغط على أعصابنا جميعًا.
قدّم بعض المثقّفين والباحثين رؤيته لتأثيرات الحدث في المستقبل القريب والبعيد، ومنهم من التقط بعض النقاط من هنا أو هناك، ومنهم من قدّم رؤيته عبر نظر تاريخي ممتد للحدث يربطه بالحروب الصليبية، وهناك من وضعه في سياق الأزمة التي تمرّ بها الرأسمالية الدولية وامتداداتها النيوليبرالية في الإقليم، وبالطبع أدركها البعض في سياق يتعلق بالنضال الفلسطيني الممتد وصراعه مع المشروع الصهيوني في تحولاته، وهناك من يراه في سياق انتفاضات الربيع العربي التي اندلعت مطلع العقد الماضي، لكن يظل هذا الجهد فرديًا، ويتسم بالمحدودية وعدم التراكم، ويفتقد الأفق الإستراتيجي الأوسع لحدث سيترك آثاره – لا شك – على مجمل الأوضاع في المنطقة.
قدّر لكاتب هذه السطور أن يشارك في مبادرتَين هامتَين للحوار حول الموضوع، إحداهما: خصصت – برغم عدم تنوع المشاركين فيها- لتأثيرات الحدث على كثير من القضايا والموضوعات من قبيل: مستقبل الحل السياسي، والعمل الوطني الفلسطيني، وظاهرة الرأي العام العالمي الداعم للفلسطينيين، بالإضافة إلى تقييم مواقف القوى الإقليمية والدولية جميعًا من الطوفان.
تميزت المبادرة الثانية بتنوع المشاركين، لكنها اقتصرت على موضوع أكثر تحديدًا؛ وهو قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية في المنطقة. أدرك القائمون على هذه المبادرة – وهما مؤسستا: نساء من أجل العدالة ومركز الديمقراطية في الشرق الأوسط – عدة عناصر مهمة لبدء عملية من هذا القبيل أهمها:
أولًا: رسم الخرائط التفصيلية لأصحاب المصلحة الذين يضمون مستويات أربعة:
المعنيون بقضايا التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان على المستوى القُطري؛ أي داخل كل بلد عربي على حدة.
المستوى الإقليمي، حيث تتنوع خبرات وتحديات كل قُطر على حدة، لذا يصبح من المفيد مشاركة الخبرات والرؤى والتأثيرات على عملهم.
ينصبّ المستوى الثالث على المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، بالإضافة إلى المجموعات النشطة التي خرجت لدعم الفلسطينيين.
وأخيرًا وليس آخِرًا؛ يمكن أن يمتد الحوار مع المعنيين بهذه القضايا داخل الحكومات والبرلمانات الغربية ذاتها.
فعلى الرغم مما يبدو من ازدواجية للمعايير وافتقاد للمصداقية؛ فإن هذه الحكومات في مأزق كبير أيضًا لأسباب عدة ليس مجال التفصيل فيها مناسبًا في هذا الموضع، لكننا نشير سريعًا إلى نقاط ثلاث:
وجود أشخاص داخل هذه المؤسسات لهم انحياز حقيقي لقيم الديمقراطية، ومبادئ حقوق الإنسان.
فقدان المؤسسات الرسمية الغربية للمبرر الأخلاقي والقيمي الذي يضمن أن يتنافسوا به كعالم “حر ديمقراطي” مع الصين وروسيا؛ باعتبارهما نظمًا مستبدة.
فقدانهم مساندة دول الجنوب في قراراتهم وسياساتهم.
كان لافتًا أن تعنون البارونة آشتون -الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية عنوان مقالها الذي نشر الشهر الماضي: “التوقف عن اعتبار الجنوب العالمي أمرًا مفروغًا منه”، وتقصد به مفروغًا منه في دعم الموقف الرسمي الغربي.
تشير آشتون – التي شغلت أيضًا نائب رئيس المفوضية الأوروبية السابق – إلى المعضلة التي تواجهها الحكومات الغربية الآن مع دول الجنوب، فتقول: “لقد تفككت الروابط التاريخية بين الدول الأوروبية وأجزاء من أفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا إلى حد كبير، حيث لم تعد الدول المستقلة تذعن لأولئك الذين استعمروها ذات يوم”.
ثانيًا: تحديد الهدف الذي رأى المشاركون أن يكون
النظر في تداعيات السياسة الخارجية للحكومات الغربية المؤثرة تجاه فلسطين على جهودهم الفردية والمؤسسية في مجالات المناصرة؛ بغرض دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في دول الإقليم؛ بما يمكّن المشاركين من تحليل السياسات الخارجية للحكومات الغربية تجاه فلسطين، والتفكير في إستراتيجيات المناصرة والناشطية المتاحة لدعم حقوق الإنسان والديمقراطية في ضوء السياقات الجديدة.
ثالثًا: من أهداف أية عملية حوار خلق وتكوين فهم مشترك يتشكل من خلال الاستماع إلى رؤى الآخرين؛ بما يثري الرؤية الذاتية لكل مشارك، ويساهم في إدراك الأبعاد المركبة للحدث.
حاول المشاركون في ورشة العمل التي عقدت آخر يوم في الشهر الماضي، التوافق حول إدراكهم الرؤيةَ والسياسة الخارجية الأميركية والأوروبية – لا سيما في مراكز التأثير كإنجلترا، فرنسا، وألمانيا – تجاه الحرب وتأثيرات ذلك على عمل الحقوقيين في المنطقة عبر فرض تحديات جديدة؛ من قبيل مسائل مصداقية الحكومات الديمقراطية، ووقف التمويل عن المنظمات الرافضة للانتهاكات الإسرائيلية، واستهداف النشطاء المؤيدين لفلسطين.
قدّم المشاركون عددًا من الملحوظات الهامة في محاولة للوصول لفهم مشترك، وكان من بين أهم الملحوظات:
بالنسبة للمنطقة العربية
ارتباط الاحتلال الإسرائيلي باستمرار وترسخ الاستبداد في المنطقة، إذ يتم غضّ الطرف عن انتهاكات الأنظمة العربية، بل وتقديم مختلف صور الدعم لأنماط الحكم القائمة في مقابل السكوت عن الاحتلال، وقبول التطبيع معه. ظهر ذلك جليًا في ارتفاع وتيرة الانتهاكات بدرجة كبيرة في دول كثيرة بالمنطقة بعد اندلاع الحرب، وهذا في ظل صمت غربي يصل للتواطؤ ومنح الضوء الأخضر لمزيد من الانتهاكات، في مقابل سكوت الأنظمة العربية عن فظائع الحرب في غزة.
سردية الإدارة الأميركية بأن عملية حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان الهدف الرئيسي منها هو وقف مسار التطبيع السعودي – الإسرائيلي، وبناء عليه يستنتج البعض أن الولايات المتحدة والعواصم الغربية الرئيسية غير معنية بوقف الحرب على قدر اهتمامها باستكمال مسار التطبيع؛ بما سيضفي شرعية أكبر على الاحتلال الإسرائيلي بين دول المنطقة.
الدعم المطلق لإسرائيل – رغم كل الفظائع المرتكبة – سيزيد من تآكل الثقة لدى الجماهير العربية بخصوص مدى فاعلية وعالمية معايير حقوق الإنسان والديمقراطية التي تتغنى بها الدول الغربية الداعمة لإسرائيل.
المواقف المتطرفة – من بعض الحكومات الغربية تجاه الناشطين والمنظمات الحقوقية الداعمة لفلسطين – تساهم في خلق موجة من الترهيب بين داعمي القضية في الوسط الحقوقي، الذين يستشعرون، بالفعل، الغضب والخذلان من المجتمع الدولي، لا سيما مع فشل الآليات الدولية – التي زاد الاعتماد عليها مؤخرًا- في وقف الحرب أو التقليل من حدتها.
الغضب المتزايد – من استمرار الحرب في ظل تواطؤ غربي كبير وصمت عربي كاشف- لن يسهم إلا في زعزعة الاستقرار الظاهري للأنظمة الحاكمة في المنطقة، والتي لا تصارح شعوبها بأي جهود تتبناها لوقف الحرب، إن وجدت. ومع زيادة الغضب من الغرب ومن الحكومات العربية على السواء، قد تخرج الأمور عن السيطرة بسهولة، وينفرط عقد هذا الاستقرار الهش المزعوم.
الموقف الأميركي والغربي
الموقف الأميركي لا يدعو للمفاجأة، فهو متسق مع دعمها الدائم غير المشروط لإسرائيل، لكن بعض المواقف الأوروبية كانت مثيرة للدهشة بقدر كبير، كما هو الحال مع الموقف الألماني، إذ تتبنى ألمانيا خطابًا داعمًا للحقوق والحريات، وتعتنق سياسة خارجية نسوية، لكنها في الوقت ذاته تدعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا وحتى قانونيًا، أمام محكمة العدل الدولية، كما أنها تفرض قيودًا وتوقف التمويل والدعم الموجّه للمنظمات التي تدافع عن القضية الفلسطينية، وتطالب بإنهاء الاحتلال.
اختلاف استقبال الشوارع الغربية للحرب عن مواقف الحكومات، وغياب انعكاس المطالب الشعبية القوية بوقف الحرب في سياسات الحكومات.. كل هذا يعكس فجوة كبيرة في تمثيل تلك الكتل في عملية صنع السياسة الخارجية. هذه الضغوط الشعبية المستمرة قد آتت ثمارها في زحزحة مواقف بعض الحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل، والتي أضحت تطالب بوقف ممتدّ لإطلاق النار.
تتماهى بعض الشركات الرقمية الكبرى مع الموقف الإسرائيلي، إذ تفرض رقابة إلكترونية على المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية كشركة META المالكة لـ Facebook والتي كشفت تقارير عدة تحيزها في أكثر من موضع.
رابعًا: تكتسب صياغة المقترحات المشتركة بين المتحاورين أهمية كبرى لأية عملية حوار
فهي بمثابة الأرضيات المشتركة التي يمكن المراكمة عليها، كما أنها في النهاية تعد بمثابة خطط العمل المستقبلية التي يمكن التعاون عليها في الحوار، وهي المنتجات التي يمكن أن يكون لها تأثير في الواقع.
إن أية عملية ليس هدفها الأخير هو جلوس المختلفين مع بعضهم بعضًا؛ رغم صعوبة ذلك في مرحلة ما قبل الحوار، وليس الغرض فقط الإنصات لمنطق الآخر وسرديته برغم ضرورته، لكن الاتفاق على خُطة عمل واضحة وإجراءات مشتركة هو منتهى النجاح للحوار.
قدم المشاركون سبع إستراتيجيات عمل ومقترحات للتعامل مع السياقات الجديدة لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، وهي:
في ظل فقدان مصداقية الحكومات الغربية، وتراجع احتمالات ضغطها على أنظمة الحكم بالمنطقة لعمل إصلاحات حقيقية، مقابل صمتهم عن الحرب على غزة، يصبح من الأكثر مناسبة الآن تبني إستراتيجيات الناشطية والتشبيك مع الشعوب بدلًا من المناصرة من الحكومات الغربية لتغيير السياسات.. هذا لا ينفي إمكانية توظيف المناصرة لدفع جهود المساءلة والمحاسبة لإسرائيل، وليس لتغيير مواقف الحكومات منها.
لا ينبغي التهوين من المراهنة على الشارع والتشبيك التقاطعي العابر للحدود مع شركاء محتملين من التنظيمات الطوعية في العواصم الغربية للحفاظ على الضغط الشعبي على الحكومات، وتشمل تلك التنظيمات: جماعة حياة السود مهمة، الجماعات النسوية، جماعات البيئة والعدالة المناخية، مجموعات LGBTQ، مجموعات السكان الأصليين بكندا والولايات المتحدة، وحركة يهود من أجل السلام، وبكل تأكيد الجاليات العربية والمسلمة الكبيرة في بعض البلدان.
ضرورة بلورة سردية فلسطينية لتفنيد الأطروحة الإسرائيلية حول استحقاقهم أرضَ الميعاد، وقد يكون المدخل لذلك نزع البعد الديني عن الاحتلال تمامًا، وتقديم القضية في صورتها الحقيقية على أنها قضية تحرر وطني؛ فتدْيين القضية الفلسطينية يخدم رواية اليمين المسيحي والصهيوني المتطرف، ويتم استغلاله من قبل إسرائيل جيدًا.
ضرورة تضافر جهود دعاة الديمقراطية والحقوق نحو تسكين القضية الفلسطينية موقعًا مركزيًا في أجندات عملهم، بحيث يتم ربطها بكل القضايا التي يعملون عليها، فيكون موقفهم أفضل في مواجهة محاولات التقييد والاستهداف المشار إليها.
إن استخدام لغة الحقوق في التشبيك مع شركاء من خارج شبكة الحلفاء التقليديين، يعزز من فرص الفعل المشترك، ففي الأخير لغة حقوق الإنسان مقبولة عالميًا لجميع الشركاء المحتملين عبر الحدود سواء في دول الشمال أو الجنوب، ولا ينبغي إطلاقًا التخلي عنها بسبب الغضب من ازدواجية المعايير لدى الدول الغربية الراعية التاريخية لخطاب الحقوق على المستوى الدولي.
العمل على المستوى القاعدي سيسمح بتعزيز أطروحة المساواة في الحريات والكرامة الإنسانية، وعالمية قيم حقوق الإنسان على عكس ما تقدمه المقاربات الرسمية الغربية، التي تغض الطرف عن انتهاكات الأنظمةِ العربية حقوقَ مواطنيها، مقابل صمت تلك الأنظمة عن انتهاكات إسرائيل حقوقَ ووجودَ الشعب الفلسطيني.
التعويل على حالة الناشطية مع الشعوب مباشرة كبديل للمناصرة مع الحكومات ينبغي ألا يهمل حدود الناشطية من قبيل قدرتها على الحشد والتعبئة، ولكن في نفس الوقت سرعة انفضاضها وتفككها، وفشلها في تحقيق أهداف ملموسة عبر بقاع العالم المختلفة إلا في حالات استثنائية.استمرار الحوار ضرورة للوصول إلى أهدافه التي قام المشاركون في بدايته بتحديدها، وهذا له متطلبات عدة أهمها: استمرار التشاور بين المشاركين وعدم اقتصاره على جلسات الحوار، بالإضافة إلى بلورة النتائج في وثائق متفق عليها وأوراق موقف Position Papers يمكن مشاركتها مع أطراف أخرى ونشرها بين المهتمين.
اختُتِم الحوار بطلب من الحضور بإبقائهم على اطّلاع بالمستجدات والفعاليات التي ستنظمها المؤسستان صاحبتا الدعوة، واستعدادهم للمساعدة في الجهود الشبيهة للتعامل مع الواقع الجديد الذي فرضته الحرب الإسرائيلية على نضالات الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة، كما أكدوا ضرورة الحرص على توصيل أصوات الحضور – التي تعكس الحالة العامة للمجتمع الحقوقي العربي – إلى كل الشركاء الدوليين المعنيين ليتبينوا تأثير سياساتهم على نضالات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي طالما تفاخروا بدعمها.