دعوا حماس تحكم غزة
دعونا نترك السلطة في غزة بيد حماس ما بعد الحرب. حماس أبدعت ببناء الأنفاق على مدى أكثر من عشرة أعوام، ولعل من المجدي لأهل غزة أن يروا مستوى إبداعها في رفع الأنقاض وإعادة البناء. فلتذهب أموال التبرعات للإعمار إلى حسابات حماس
يدرك كبار القادة العسكريين الإسرائيليين أن قائمة الأهداف التي يمكن تدميرها في غزة على وشك النفاد. فما عدا اجتياحا مكلفا سياسيّا وعسكريّا وإنسانيّا لرفح، لم يبق الكثير لفعله عسكريا في القطاع. لا نعرف كم تبقى لدى حماس من قوة في ذلك الجيب المحاصر، لكن وجود ما تبقى من المحتجزين الإسرائيليين هناك، والضغط الأميركي لمنع حكومة بنيامين نتنياهو من اتخاذ قرار اجتياحه، تركا الإسرائيليين أمام خيار واحد تقريبا وهو قرار القبول بالهدنة. فرضية تدمير حماس بشكل كامل انتهت ربما من الشهر الأول من الحرب، وصار بعض من كبار المتشددين في إسرائيل يردد مقولة إن من الصعب تدمير فكرة. آخر ما يمكن أن يفكر فيه القادة العسكريون الإسرائيليون هو ارتباط مصير سياسي مشبوه مثل نتنياهو بمسيرة الحرب.
تتصرف حماس على الأرض على أساس أنها ستبقى القوة المسيطرة على غزة في أيّ ترتيب يعقب الحرب. السلطة الفلسطينية أضعف وأفشل من أن تقدم أيّ ترتيب، وباءت بالفشل كل محاولاتها لتسجيل الحضور في غزة، مثل إرسال قوات للقيام بمهمات ضبط الأمن وتوزيع المساعدات. سارعت حماس إلى اعتقال من أرسلهم محمود عباس إلى غزة للتذكير بأن لا مكان لسلطة رام الله في غزة، من بعد انقلاب 2007 ومن بعد أي وقف لإطلاق النار. وقد أحسن الوسطاء العرب، وبالخصوص منهم مصر وقطر، بعدم زج السلطة في أيّ مفاوضات تخص الهدنة؛ لأن دخول السلطة على الخط، في أحسن الأحوال، سيضيف تعقيدا بلا فائدة تذكر.
حماس بدأت الحرب الجارية يوم أطلقت عملية “طوفان الأقصى”. كيف وصلت حماس إلى هذا القرار، سواء بِحثّ من إيران أو بدافع لفت الانتباه إلى قضيتها بعد سنوات طويلة من الإهمال الإسرائيلي والأميركي أو بمجرد سوء تقدير، فهذا أمر يترك للمؤرخين كي يفتوا فيه. ما نعرفه هو ما يحدث أمامنا من دمار شامل نفذته إسرائيل انتقاما من العملية. فلم يحدث في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، ومنه بالخصوص الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أن تعرض العرب والفلسطينيون لمثل هذه الخسائر البشرية (حرب نكبة 1948 – 20 ألف قتيل عسكري ومدني عربي وفلسطيني، حرب السويس 1956 – 4000 عسكري ومدني، حرب نكسة 1967 – 15 ألف عسكري، حرب أكتوبر 1973 – 18500 عسكري ومدني، حرب اجتياح لبنان 1982 – 19 ألف مقاتل وعسكري ومدني + 3000 مدني في مجزرة صبرا وشاتيلا، سلسلة المواجهات بين حماس وإسرائيل من بعد عام 2007 وصولا إلى 2023 – بضعة آلاف، حرب طوفان الأقصى 2023 – 38 ألف مدني ومقاتل إلى حد الآن).
تعتقد حماس أن بقاءها لما بعد الحرب كقوة موجودة في غزة هو تعريف للانتصار. سبق وأن أوهمت دول عربية نفسها بأن البقاء -أي البقاء عبر الإمساك بالسلطة- هو انتصار. من يضع هذا الافتراض لا يهمه حجم الخسائر في الأرواح وما يترتب على حرب شاملة من دمار. في حرب تحرير الكويت عام 1991 مثلا، تم تدمير معظم البنية التحتية للعراق ولكن سلمت البيوت بشكل عام. في حرب غزة الجارية لم تسلم منازل الغزيين من الدمار، بل تمت إزالة أحياء سكنية بالكامل دون أدنى اعتبار لما يجره ذلك من كوارث على أصحابها في الحرب أو بَعدها. ربما كانت خطة حماس أنها تستطيع جر الإسرائيليين إلى الهدنة خلال وقت قصير بعد أن يرى العالم حجم الدمار في جزء من غزة. ما لم يتحسبوا له هو أن حسبة سفر الخروج “النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن” لا مكان لها في عملية الانتقام الإسرائيلية. القادة الإسرائيليون يقرأون سفر صموئيل الأول عن إبادة الجميع.
تقول المرويات التي يروجها محور الممانعة بأن على الفلسطينيين أن يدفعوا ثمن حريتهم. الحرب من وجهة نظره ضرورية وخسائرها البشرية والمادية هي جزء من الحرية المنتظرة. تتخلل هذه المرويات الإشارات المستمرة للحاجة إلى هدنة بين حين وآخر كي تلتقط حماس أنفاسها وتواصل الحرب في مرحلة لاحقة. هذا نوع من الافتراضات مذهل بسذاجته لأنه يقول إن إسرائيل والعالم يتحركان على عقارب ساعة طهران.
سيناريو الحرب الجارية فيه الكثير من الافتراضات. لكن كما نرى من سير الحرب وسير المفاوضات والوساطات أن الأساس هو صمود وبقاء حماس. حماس، وقادتها الذين حاربوا إسرائيل من أنفاق غزة، هم من سيعلن النصر بعد إعلان الهدنة وتبادل المحتجزين والأسرى. لا مكان في هذا السيناريو لسلطة فلسطينية متواطئة مع الاحتلال، أو قوات سلام عربية أو دولية. ليست واضحة مدة بقاء القوات الإسرائيلية داخل غزة أو على تخومها وإلى أي مدى يُسمح لها بأن تنتهك اتفاقات الهدنة متى ما وجدت أن هذا مناسب. ليس واضحا وضع الجبهة الشمالية بين إسرائيل وحزب الله، وهل ستشمله الهدنة أم أن حماس ستعود إلى القتال إلى جانب حليفها. ماذا سيفعل الحوثي في اليمن والحشد في العراق.
لو حدث وأقرت الهدنة، فإن أول ما هو مطلوب هو وضع خطة انتشال وإعمار للقطاع المدمر. المطلوب من الجميع المساهمة في تمويل الإعمار حتى وإن كان ممنوعا عليهم الإدلاء بالرأي في قرار الحرب. وكما أبلغت حماس السلطة الفلسطينية بأن غزة أرض حرام عليها، فإنها ذكّرت شيوخ القبائل ورجال الأعمال في غزة بأن هناك سلطة واحدة ستقرر كيف تدار عملية الإعمار وأن لا دور لهم في أيّ ترتيب حتى مع أقرب الحلفاء لحماس، مثل القطريين أو الأتراك.
حماس إذًا هي صاحبة قرار الحرب وقرار الهدنة ومبادلة المحتجزين والأسرى، وهي من يعلن النصر، وهي من يتقبل التهاني بالنصر ومعه شيكات أموال الإعمار. غير مسموح لغيرها بأي دور.
إذًا دعونا نترك السلطة في غزة بيد حماس ما بعد الحرب. حماس أبدعت ببناء الأنفاق على مدى أكثر من عشرة أعوام، ولعل من المجدي لأهل غزة أن يروا مستوى إبداعها في رفع الأنقاض وإعادة البناء. فلتذهب أموال التبرعات للإعمار إلى حسابات حماس، وليقرر معها أهل غزة كم تصرف لهم لإعادة بناء المستشفيات وفتح الطرقات وتصليح ما خرب من بنى تحتية ومدارس وأسواق وورش ومساعدة الأهالي في بناء منازلهم التي دمرت خلال الحرب، وكم تصرف حماس من هذه الأموال على إعادة تجديد شبكة الأنفاق وشراء السلاح ودفع رواتب المقاتلين.
تتصرف حماس في مصائر أهل غزة كما يحلو لها. هكذا فعلت منذ عام 2007، وحين أطلقت عملية “طوفان الأقصى” وحين تتفاوض مع الموساد والأميركيين بوساطة القطريين والمصريين. وهي مصممة على أن شيئا لن يزيحها عن سيطرتها على غزة، وأن كل من يحاول التدخل بينها وبين فلسطينيي غزة، حتى لو كان من فلسطينيي فتح أو شيخ عشيرة أو رجل أعمال، أو من دولة عربية مهما كانت نواياها، فإنه عدوها. هل ثمة من يجادل بعد كل هذا بأن ثمة بديلا غير حماس لحكم غزة.