قامت إسرائيل بشكل متعمد ومدروس ضمن خطة ممنهجة في قطاع غزة الذبيح، بإعمال معول الهدم والتدمير آناء الليل وأطراف النهار استهدف كافة أركان الحياة، من أحياء ومربعات سكنية ومدارس ومستشفيات ومساجد وكنائس وبنوك وأسواق ومخابز وغيرها، حيث سوّيت أحياء كاملة في أنحاء متفرقة في قطاع غزة بالأرض بتفجيرات مقصودة وليس فقط بالقصف الجوي، وأحرقت المنازل بعد الخروج منها.ط
وكشفت صور للأقمار الصناعية، المناطق التي تعرضت لدمار كلي أو شبه كلي في الرمّال وبيت حانون وخان يونس وجباليا ودير البلح والشجاعية، والكثير من المناطق الأخرى. وقدّر البنك الدولي في تقرير له في مطلع الشّهر الحالي، “أن قرابة 45 في المئة من المباني السّكنية في قطاع غزة دمّرت بشكل كامل، أي أنّ قرابة مليون شخص فقدوا منازلهم كليا في القطاع”. وبحسب البنك الدّولي، “فقد دمّر 34 ألف منزل بشكل كامل، من بين 55 ألفا بنسبة تدمير تصل إلى نحو 60 في المئة تقريبا”.
تؤكد هذه التقارير وتقارير أخرى من المنظمات والمؤسسات الدولية، على فداحة وفظاعة الخسارة الوطنية الفلسطينية، فمن الطبيعي القول إن هناك الكثير من العائلات الفلسطينية التي لن تجد أماكن سكنها ولا حتى أماكن عملها ولا دور عبادتها وحاراتها التي أمضت سنين حياتها فيها، فقد مُسحت أحياء بالكامل كما مسحت عائلات من السجل المدني ولم يعد لها أي أثر سوى الركام والحطام وحفنة من الذكريات.
إن لم تكن حماس متورطة أساسا في سرقة المساعدات فمطلوب منها محاربتها وعدم غض النظر عنها بحجة الانشغال بالحرب تأسيسا لحياة كريمة فكيف لهذه العائلات الفلسطينية المتبقية أن تستمر أحوالها هكذا؟ وإلى متى تعيش في العراء، في بيوت جدرانها الريح وسقوفها السّماء، تتوسد الحصى وتلتحف أسمالا بالية؟ إنّ كل هذا يستدعي حثّ الخطى وتكثيف الجهود والإسراع نحو الوصول إلى حل سياسي تكون مقدمته تمرير صفقة تبادل الأسرى، والتي بدورها ستكون مقدمة لوقف إطلاق النار وفتح أبواب مساعدات الإغاثة، لتثبيت الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه. فالشّعب إذا هاجر من غزّة ستبتلعها إسرائيل بالمستوطنات، وسنخسر الشّعب، والأرض التي كان يعيش فيها.
ولتثبيت الشعب الفلسطيني في أرضه بصفته الصّخرة الصّماء التي تتكسر عليها المؤامرات والخطط التوسعية، يجب الاعتناء به وتوفير مقومات الحياة الأساسية له كحد أدنى والتي من المحال أن تدور عجلة الأيام من دونها، ومنحه حقوقه وعدم الاستيلاء عليها ظلما وعدوانا كسرقة المساعدات التي ترسل له من الدول الشّقيقة والصّديقة ومنظمات الإغاثة الدولية، وبيعها بمبالغ لا يحتملها أي مواطن فلسطيني عادي فقد وصل ثمن كيس الطحين وهو من المساعدات إلى 1300 شيكل، أي أكثر من 300 دولار، وسعر الخيمة إلى 1200 دولار، وكيلوغرام السكر وصل إلى 10 دولارات، وطبق البيض إلى 40 دولارا.
من يتصفح صفحات التواصل الاجتماعي لأهلنا البواسل في قطاع غزّة سيصدم من هول الأسعار وهول الفساد والاستغلال والسرقة هناك وتحديدا في رفح، قبلة النّازحين الداخلية الأولى. وقد انتشر هذا الفساد بشكل واضح جدا، فضحته ألسنة النّازحين المشققة من العطش والجوع في المقابلات التلفزيونية، يشكون الفساد والاستغلال ويتحدثون بشكل تفصيلي عن الارتفاع الذي لا يطاق لأسعار المواد الغذائية وهي من المساعدات التي يجب أن توزّع مجانا وبلا مقابل. في حين وصلت المأساة الإنسانية إلى حد لا يطاق واضطر البعض لأكل لحم الحمير وطحن علف الدجاج والمواشي وخَبزهِ في تل السلطان ومناطق أخرى.
وبعد هذه التجربة المريرة لشعبنا الفلسطيني في غزّة وتوريطه في محرقة هذا القرن، فإن الواقع اليوم وللأسف الشديد يقول إن ما حدث في السّابع من أكتوبر مهّد للاحتلال تنفيذ ما يحلو له من مخططاته القديمة الجديدة وتجسيد فكرة “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”.
وإن كانت المساعدات اليوم تسرق ويتم بيعها بأضعاف مضاعفة للمواطن الفلسطيني النّازح والذي يعيش تحت الصفر، كيف سيكون حال هذا المواطن المغلوب على أمره والذي يقوم المستغلون والانتهازيون بمصّ دمه كعلقة شرهة بلا حسيب أو رقيب، في المستقبل القريب وخصوصا في مرحلة إعادة الإعمار؟ فالمواد التي ستخصص لإعادة الإعمار من حديد وإسمنت وطوب سيبلغ ثمنها المليارات ويفوق أسعار المواد الغذائية مما يفتح شهية الفاسدين والمستغلين بشكل لا يمكن لجمه. وما هي الضمانات كيلا يتكرر ما يحدث اليوم من سرقة المواد وبيعها لأهل غزة بأسعار جنونية عوضا عن تقديمها لهم بلا مقابل؟
ومن هذه النقطة بالتحديد يجب الشّروع في الحديث عن استحالة القبول بهذا الواقع في المستقبل القريب، شعبنا المنكوب بأمس الحاجة إلى مستقبل أفضل بكثير، تتمّ فيه محاربة الفساد والاستغلال ومحاسبة المفسدين والمستغِلين ويتم فيه تحديد آليات لتوزيع المساعدات بلا محسوبية أو سرقات.
والحديث أيضا عن المسؤول عن هذا الفساد وأين دور حكومة حماس ورجال شرطتها التي ظهرت بالأمس القريب وهي تعتدي بالضرب على النسوة الغزّيات في إحدى المدارس في رفح التي تحولت إلى مكان يتكدس فيه النازحون بسبب هواية يحيى السنوار الانتحارية التي مارسها في السّابع من أكتوبر، وإن لم تكن حماس متورطة أساسا في سرقة هذه المساعدات فمطلوب منها محاربتها وعدم غض النظر عنها بحجة الانشغال بالحرب، تأسيسا لحياة كريمة يجب أن تكون أفضل بكثير لشعبنا المتعب في قطاع غزة المكلوم والذي قدم أثمانا باهظة على طريق الحرية والتحرر.