منذ السّاعات الأولى من حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضد قطاع غزّة بسبب “غزوة حماس” في السّابع من أكتوبر، كان الشعب الفلسطيني والعالم العربي والإسلامي بأسره يعلمان علم اليقين ما ستجرّه الـ“غزوة” من انتقام إسرائيلي مسعور ومجازر وزلازل سياسية ضد الشّعب الفلسطيني الأعزل، وأن ارتدادات هذه الـ“غزوة” لن تقتصر فقط على قطاع غزّة بل ستنعكس سلبا على كل الجغرافيا الفلسطينية، وستطال حتى الشعب الفلسطيني بدول اللجوء والشاهد على ذلك قطع المساعدات عن الأونروا التي تمدهم بالمساعدات المالية والغذائية وتقدم لهم الرعاية الصحية، وأن شعبنا في كافة أماكن تواجده سيدفع ثمنا لا يطاق وتتحاشاه دول إقليمية كبرى. فالفلسطينيون بين الله أكبر والله يستر.
ولو تطرقنا إلى موقف القيادة الفلسطينية لوجدنا أنّها لم تدخر جهدا، سياسيا ودبلوماسيا وقانونيا، في مقارعة إسرائيل وإجبارها على وقف إطلاق النّار، حيث يعلم القاصي والداني أنها من زودت جنوب أفريقيا بالكثير من الملفات التي تدين إسرائيل في لاهاي. واليوم لا تمل القيادة الفلسطينية ولا تكل من التحذير من خطورة اجتياح رفح، وتعمل على تشكيل إجماع دولي للضغط على إسرائيل لمنع هذا الاجتياح الذي يهدد أكثر من مليون فلسطيني غالبيتهم من النازحين من مدن أخرى في قطاع غزّة، فالقيادة الفلسطينية عملت وتعمل منذ اليوم الأوّل لوقف العدوان وعدم تمدده ووقف معاناة الشّعب الفلسطيني والحفاظ على ما تبقى من قطاع غزّة من مبانٍ سكنية ومؤسسات دولة ودور عبادة ومدارس ومرافق عامة، وجدير بنا أن نستنتج أن موقف السلطة الفلسطينية المنبثقة من منظمة التحرير الفلسطينية ثابت لم يتغير منذ عشرات السنوات وكان الأكثر فهما لموازين القوى والسياسة المختلّة في المنطقة والعالم بأسره.
والحقيقة أنّ حركة حماس هي أيضا ضحية للتضخيم الإعلامي الذي ينفخ فيها كبالون مطاط منذ عدة عقود، ويظهرها بأنّها قوة عسكرية تعادل أي جيش من جيوش المنطقة النّظامية، فها هي تخسر الحرب تلو الحرب، وفي كل حرب تنتهي كانت تدّعي أن الحصار سيرفع عن غزّة وأن الاقتحامات الإسرائيلية للأقصى ستنتهي وأن حي الشّيخ جراح لن يتم هدمه وترحيل سكانه ولا حي سلوان في القدس ولا أي من الأحياء الأخرى، ولم يحدث أي شيء من انتصارات حماس الإعلامية، وللأمانة الأمر الوحيد الذي حدث هو دخول الأموال القطرية عبر إسرائيل منعا لانهيار حكم حماس في القطاع، الأمر الذي يخدم إسرائيل باستمرار الانقسام وإضعاف الكيانية الفلسطينية الشّرعية في رام الله.
ومن الواضح أنه تمّت التضحية بحماس بعد التغرير بها من قبل بعض الجهات الإقليمية، فهي تتخبط يمينا ويسارا، ففي العام الفائت وقبل ثمانية أشهر رفضت في اجتماع العلمين أن تكون منظمة التحرير الممثل الشّرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ورفضت مسار حلّ الدّولتين، وبعد مرور أقل من شهر زمني على الحرب طالب إسماعيل هنية بضرورة فتح مسار سياسي يفضي لحل الدولتين، أي أن حركة حماس غيرت موقفها 180 درجة خلال أقل من أربعة أشهر، وفي اجتماع موسكو قبل عدة أسابيع قبلت بأن تكون منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشّرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. فمن المستغرب صراحة كلام حماس السياسي وهو نسخة طبق الأصل عن حديث حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية قبل عدة عقود زمنية خلت، فهل يمكن أن نعتبر أنّ موقفها الحالي تطورٌ إيجابيٌّ ملموسٌ أم دليل على انفصال الحركة عن الواقع لعدة عقود سابقة وقصور نظرها السياسي، وأنها كانت على خطأ وتسعى اليوم لتصحيح خطئها، بعدما حكمت على نفسها بالإعدام دوليا. لكن السؤال المطروح، لماذا عارضت حماس البرنامج السياسي لمنظمة التحرير أساسا، وهي تقبل به اليوم؟
من اللافت للانتباه أن حركة حماس لم تعد قادرة على الانتباه والأخذ بعين الاعتبار المستجدات الدولية والإقليمية، حيث أنها أوقعت نفسها في خانة العضو الحرام في منظمة التحرير الفلسطينية، فهي تحاول الاختباء في المنظمة في الوقت الحالي والاحتماء بالشّرعية الدولية لها، تلك الشّرعية التي طالما هاجمتها وخوّنتها وأحلّت دماء المنتسبين إليها، وشغلها الشاغل اليوم هو تلميع صورتها في كافة النواحي الشّعبية والإقليمية والدولية، وذلك بعدما بذلت قصارى جهدها لتكون بديلا عن منظمة التحرير الفلسطينية في الماضي البعيد والقريب وفشلت فشلا ذريعا.
ويظهر ذلك جليا بانتقادها لقرار تكليف رئيس الوزراء وهو عضو مستقل في منظمة التحرير الدكتور محمّد مصطفى، واعتراضها على عدم مشاورة الرئيس للفصائل بهذا الشّأن، مع أن هذا من صلاحيات الرئيس وفق القانون الأساسي، على الرغم من أن الرئيس محمود عباس كلّف عام 2006 رئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة من دون العودة للفصائل. يقترن ذلك النقد مع سعيها اللافت للاستمرار بحكم ما تبقى من قطاع غزّة، فأفعالها تناقض أقوالها تماما بعدما أعلن القيادي موسى أبومرزوق للعديد من وسائل الإعلام في ختام لقاء موسكو موافقة الحركة “التخلي عن حكم قطاع غزة، وأن تكون منظمة التحرير مرجعية الحكومة الجديدة”.
لم تكترث حماس ولا رعاتها مطلقا من قبل ولا اليوم بما سيجلبه حكمها من حصار ومقاطعات ومصائب للشّعب الفلسطيني في قطاع غزّة، فالحركة هي أهمّ من فلسطين وفلسطين ليست سوى سواك تستاك به لتحقيق مشروعها الأكبر وذلك حسب أحد تصريحات القيادي محمود الزهار، فهي لا تريد أن تعترف أنها فشلت فشلا ذريعا وهبطت بقطاع غزة لما دون الصّفر.
فاليوم على حركة حماس تقديم كشف حساب عن منجزاتها التحررية والتنموية والاقتصادية والمعيشية في قطاع غزّة، ولماذا قامت بتبديد الميراث الوطني الذي سلبته من منظمة التحرير غصبا، واستعدت واستفزت الكثير من الدول العربية وخاصة الخليجية بارتباطها بأجندات إقليمية مناوئة لها، وتحتل ثلاث جزر عربية، وأحالت سنغافورة العرب إلى أطلال دارسة يبكي عليها القريب والبعيد وما الدافع من ذلك، ولماذا هاجر غالبية قادة الحركة بشكل طوعي قبل السّابع من أكتوبر، عوضا عن خوض الحرب ودفع أثمانها، كأي مواطن فلسطيني في غزّة؟ وبما أن تلك الحرب كانت بقرار منفرد منها لم تستشر فيه أحدا، فلماذا لا تتحمل مسؤولية قراراتها، في ظل الحديث عن دراسة القيادة الإسرائيلية للعرض الذي قدمته قيادة الحركة والذي “يتضمن الالتزام بعدم التعرض لكبار المسؤولين المنفيين”؟ وهذا الأمر تحدثت عنه فتح في بيانها النّاري الذي أسقطت فيه ورقة التوت عن القيادة الإسلامية المنزّهة عن الغلط.
لعلها أسئلة فلسطينية كبيرة بانتظار من يجيب عليها.