“حماس” خسرت… وإسرائيل لم تربح
يستحيل وقف هذه المأساة ما دامت “حماس” موجودة وما دام بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة الإسرائيليّة وما دامت السلطة الوطنيّة في رام الله عاجزة عن اتخاذ أي مبادرة من أي نوع.
خسرت “حماس” حرب غزّة، لكنّ إسرائيل لم تربح هذه الحرب ولا يمكن أن تربحها. خسرت “حماس” لأنّها تسببت في تدمير قطاع غزّة على رؤوس الغزاويين ولأنّها لا تمتلك، أصلا، مشروعا سياسيا قابلا للحياة باستثناء إقامة “إمارة إسلاميّة” على الطريقة الطالبانيّة (نسبة إلى طالبان) في القطاع من جهة وتغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني نحو ترسيخ ثقافة الموت فيه من جهة أخرى.
يؤكّد ذلك هجوم “طوفان الأقصى” الذي شنته “حماس” في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي، أي قبل ما يزيد على مئتي يوم. ما الهدف السياسي الذي كان وراء الهجوم غير إعادة الاحتلال الإسرائيلي إلى القطاع الذي انسحبت منه الدولة العبريّة في آب – أغسطس من العام 2005 بعدما فككت المستوطنات التي كانت أقامتها فيه؟
لا وجود لمثل هذا الهدف في حين تعجز “حماس” عن تحديد خياراتها وإعلانها أمام الفلسطينيين أنّها تتحمّل مسؤولية الكارثة التي حلّت بغزّة وأهلها بعدما لجأت إسرائيل إلى وحشية لا سابق لها في التعاطي مع القطاع وأهله. لا تملك “حماس” غير طرح شروط من النوع المضحك المبكي مثل العودة إلى مرحلة ما قبل “طوفان الأقصى”، أي إلى انسحاب إسرائيلي كامل من دون شروط من غزّة. لا إدراك لدى الحركة لعمق التغيير الذي حصل في داخل إسرائيل نفسها منذ الهجوم الذي شنته على مستوطنات غلاف غزّة. تختزل هذا التغيير رغبة أكثريّة إسرائيليّة في التخلص من بنيامين نتنياهو من دون أن يعني ذلك أي عودة إلى سياسة عقد صفقات مع “حماس” أو أذرع إيران المختلفة مثل “حزب الله” في لبنان.
ثمّة عودة إلى السؤال الأساسي: ما العمل بغزّة؟ الأكيد أنّ لا جواب لدى “حماس” عن هذا السؤال، خصوصا أنّ لا مجال لإعادة الحياة إلى “الإمارة الإسلاميّة” التي تبيّن في نهاية المطاف أنّها ليست سوى استثمار إيراني. لا جواب لدى إسرائيل أيضا، خصوصا في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو التي استغلّت “طوفان الأقصى” من أجل تحقيق حلم مستحيل يتمثّل في تصفية القضيّة الفلسطينية. لا يزال هذا الحلم يراود اليمين الإسرائيلي الذي يرفض استيعاب أنّ القضيّة الفلسطينية قضيّة شعب موجود بقوّة على الخريطة السياسيّة للمنطقة… وعلى أرض فلسطين، قبل أي شيء آخر.
لم تعرف إسرائيل يوما ما عليها عمله بغزّة منذ احتلّتها في حرب العام 1967. تمنّى دائما كبار السياسيين الإسرائيليين لو يبتلع البحر غزّة للتخلّص منها. لكنّ غزّة كانت دائما موجودة، كجزء من الجغرافيا الفلسطينيّة، بمساحتها الصغيرة ذات الكثافة السكّانية. تدفع إسرائيل حاليا ثمن الانسحاب أحادي الجانب من القطاع من دون تنسيق مع السلطة الوطنيّة في رام الله، وعدم إدراك بنيامين نتنياهو أنّ لا فائدة من التواطؤ مع “حماس” من أجل قطع الطريق على خيار الدولتين. راهنت إسرائيل طويلا على “حماس”. تدفع الآن غاليا ثمن هذا الرهان الذي لعبت قطر دورا مهمّا فيه من دون الحصول على فوائد سياسيّة توازي استثمارها الذي استغلته “حماس” لبناء أنفاق.
سقط رهانان سياسيان في الوقت ذاته. سقط رهان “حماس” لأسباب عدّة، في مقدّم الأسباب أن لا علاقة للحركة، من قريب أو بعيد، بأي منطق سياسي من أي نوع باستثناء خدمة المشروع التوسعي الإيراني. كيف يمكن لعاقل الاعتقاد أنّه يمكن البناء، سياسيا، على “طوفان الأقصى” ومرحلة ما بعد “طوفان الأقصى” التي قفزت فيها “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى الواجهة من منطلق إثبات أنّها اللاعب الأساسي في المنطقة؟
سقط يوم السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر رهان “حماس” وسقط رهان اليمين الإسرائيلي على “حماس” وعلى عدائها للسلطة الوطنية ولخيار الدولتين. يعني ذلك أنّ البحث في مستقبل غزّة لا بدّ أن يكون خارج “حماس” وخارج الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة وخارج السلطة الوطنيّة بشكلها الحالي. هناك سلطة وطنيّة تظهر يوميّا عجزها عن الإقدام على أي خطوة ذات طابع إيجابي في أي اتجاه كان، اللهمّ إلّا إذا استثنينا موقف “فتح” من “حماس” ردا على اعتراض الحركة على تشكيل حكومة فلسطينيّة جديدة.
من الواضح أنّ فصلا مختلفا من حرب غزّة بدأ الآن مع إصرار بنيامين نتنياهو على اقتحام رفح بدل القبول بوقف لإطلاق النار يضع حدّا للمأساة. يستحيل وقف هذه المأساة ما دامت “حماس” موجودة وما دام بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة الإسرائيليّة وما دامت السلطة الوطنيّة في رام الله عاجزة عن اتخاذ أي مبادرة من أي نوع. من يخرج المنطقة من الحلقة المقفلة التي تدور فيها منذ ما قبل اندلاع حرب غزّة التي هي امتداد للمشروع التوسعي في المنطقة من جهة وسياسة اليمين الإسرائيلي من جهة أخرى؟
يظلّ أفضل تعبير عن المشروع الإيراني، الذي كانت انطلاقته الجديدة من العراق في العام 2003، انتشار الأذرع الإيرانية في المنطقة كلّها، خصوصا في العراق نفسه وسوريا ولبنان واليمن.
بكلام أوضح، لا مفرّ في نهاية المطاف من تدويل للوضع في غزّة بعيدا عن الاحتلال الإسرائيلي وعن أوهام “حماس” الراغبة في إعادة الحياة إلى “الإمارة الإسلاميّة”. توجد مؤشرات إلى تحرّك أميركي في هذا الاتجاه، خصوصا في ضوء إنشاء أميركا لميناء عائم قبالة غزّة. هل من علاقة بين زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للصين وبين هذه المؤشرات؟
يعرف العالم كلّه أن الصين طرف قادر على التأثير في إيران وتحييدها، إضافة إلى أنّها مهتمة بحرّية الملاحة في البحر الأحمر دفاعا عن مصالحها التجاريّة. هل نحن أمام تحوّل في غزة؟ سيعتمد الكثير على ما إذا كان العالم سينجح في لجم “بيبي” نتنياهو ومنعه من ارتكاب مجزرة أخرى في حق الشعب الفلسطيني في رفح… إنقاذا لمستقبل سياسي لم يعد له وجود!