ضبط توجهات حركة حماس
يتطلب ضبط سلوك الحركة، القبول بمصالحة فورية مع الحركات الأخرى، وتتوارى نسبيا وتترك مساحة لغيرها لإدارة القطاع
تشير مسودة الصفقة التي طرحتها الإدارة الأميركية أخيرا إلى وقف الحرب في قطاع غزة، وأن شرط التخلص من حركة حماس عملية مطاطة، ففي الوقت الذي قضت فيه إسرائيل على جزء كبير من قدرات الحركة العسكرية لا تزال الحركة تتصرف على أنها الرقم الأهم حتى الآن، ما يؤكد وجود ضرورة لضبط سلوكها السياسي من داخلها أولا، لأن الفترة التي تمكنت فيها من السيطرة على القطاع وإدارته بمفردها انتهت، وسوف تحدث تحولات كبيرة في هذه المسألة.
كشفت بعض تصريحات قادة في الحركة عن قدر من الاعتراف بالأمر الواقع الذي أنهك الحركة عسكريا وأفقدها أهم مزاياها في التفوق على خصمها اللدود، ممثلا في حركة فتح التي يتولى رئيسها محمود عباس (أبومازن) قيادة السلطة الفلسطينية.
لكن هؤلاء القادة لم يبلورا رؤية سياسية للتعامل مع التحولات المنتظرة في فترة ما بعد وقف الحرب، والتي تنشغل بها دوائر عربية وغربية كثيرا، لأجل التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية للقضية الفلسطينية، والتي سيكون فيها القطاع هو رأس الرمح الذي استعد الكثيرون لكسر خشونته التي كشفتها الحرب بين حماس وإسرائيل.
ما لم تتمكن الحركة من ضبط بوصلتها بما يتوافق مع التحركات الحثيثة التي تقوم بها جهات إقليمية ودولية ستجد نفسها خارج الساحة السياسية، فقد تيقنت هذه الجهات من أن ترك غزة سنوات طويلة تحت هيمنة حماس برقابة ضعيفة أمنية ومالية أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى المأزق الراهن، وجعلت إسرائيل تصمم على فرض إرادتها الخشنة على القطاع بكل السبل، والتصميم على عملية اجتياح مدينة رفح والسيطرة على معبرها وإرسال قواتها إلى محور فيلادلفيا.
تعتقد إسرائيل أنها تمتلك ورقة ضغط على مصر بالوصول إلى أبعد نقطة على المحور ورفع علمها على معبر رفح، وتصورت بحديثها عن تهريب أسلحة عبر أنفاق من الأراضي المصرية أنها سجلت هدفا في مرمى القاهرة يجعلها تصمت على ما يجري من انتهاكات في رفح والقبول بما يتم من إجراءات عنيفة، أو المشاركة في تقنين سلوك حماس الذي تسبب في متاعب عديدة لمصر في مرحلة سابقة قبل التوصل إلى تفاهمات حول منع عمليات التهريب من خلال الحدود المشتركة من سيناء وغزة.
حيال الأوضاع المزعجة أمنيا بسبب تواجد إسرائيل في معبر رفح وإمكانية أن يفضي ذلك إلى تطورات غير مرغوب فيها، على القاهرة أن تسعى إلى إقناع حماس بتغيير سلوكها بما يتسق مع طبيعة المرحلة المقبلة، وتريد إسرائيل فيها إلغاء أيّ دور لحماس في إدارة غزة، وفرض رؤية تجعل القطاع بطة عرجاء في عملية المقاومة، ونختلف أو نتفق مع ما قامت به في السابع من أكتوبر الماضي إلا أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى جدول اهتمامات المجتمع الدولي، والتفكير في حلول تضع حدا للمأساة الإنسانية والعسكرية والسياسية التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال.
تعمل مصر ودول عربية على الاستثمار في هذا الأمر، وهو ما يجب أن تدرك حركة حماس تداعياته، وتتعامل معه بواقعية إذا أرادت أن يكون لها دور سياسي في المرحلة اللاحقة، فقد استوعبت إسرائيل دروس طوفان الأقصى وعبره ونتائجه بما جعل حمائمها لا يقلون تشددا عن صقورها في الموقف من المقاومة عموما، كما أن الدعم الذي تلقّاه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في جزئية تقويض قدرات الحركة يمكنه من التمسك بأن تكون حماس على الهامش الفلسطيني عقب إخفاقه في اجتثاثها من جذورها.
قد تنتهي الحرب إذا نجحت مبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن في عقد صفقة بين حماس وإسرائيل أو تنتهي بغيرها من المبادرات السياسية والأدوات العسكرية، والمؤكد أن المرحلة التالية لوقف إطلاق النار لن تكون هيّنة على حماس والفلسطينيين عموما، فالنهج الذي عملت به الحركة على مدار العقود الماضية لن يكون مقبولا به لاحقا، وهي تحتاج إلى ترتيب أوضاعها وقتا طويلا.
وما كانت تتحصل عليه من أسلحة وما راكمته من معدات عبر طرق مختلفة فقدته أو فقدت معظمه في هذه الحرب، بالتالي لن تكون الحركة بكامل لياقتها العسكرية التي ساعدتها على الصمود أمام إسرائيل لأكثر من ثمانية أشهر.
لن تكون حماس الغد هي نفسها حماس الأمس، فقد استمدت نفوذها من قوتها العسكرية وليس من منهجها السياسي أو توجهاتها الوطنية التي تلقى إجماعا أو توافقا فلسطينيا، وعندما تجلس على الطاولة للحوار مع فصائل أخرى في الصين أو روسيا ستتأكد أنها خسرت جزءا كبيرا من بريقها ومناوراتها وقدرتها على فرض شروطها في عملية إنهاء الانقسام، وهو ما يجب أن تكون مستعدة للتعامل معه بحكمة.
لم تعد تصرفات حماس، من مناوشات مع فتح ومضايقات للسلطة الفلسطينية وتمسّك بمنهج المقاومة ورفض مبدأ التسوية السياسية، قاصرة على الجانب الداخلي، فما قامت به أرخى بظلاله على منطقة الشرق الأوسط، وربما العالم، لأن حرب غزة تداخلت فيها خيوط إقليمية عدة، ولا يزال شبح انفلاتها على حرب أوسع يلوح في الأفق، ما يعني أن حركة مسلحة يمكنها بما تملكه من استعدادات عسكرية بسيطة مقارنة بالآلة الحربية الجبارة التي تملكها إسرائيل قلب الطاولة في أيّ منطقة.
ولذلك فما قامت به حماس فتح الباب لتساؤلات حول الحركات والجماعات والميليشيات المنتشرة في المنطقة التي تستطيع بما في حوزتها من معدات إثارة حروب، الأمر الذي كانت تتغافل عنه قوى كبرى لأنه يحقق أهدافها في هذه الدولة أو تلك، لكن ما بعد طوفان الأقصى فرض النظر بطريقة مختلفة إلى حماس وأمثالها.
إذا كانت حماس تريد مواصلة دورها في تحقيق جزء من التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني عليها أن تقوم بجردة حساب عملية للواقع، وتتعايش مع معطياته التي لن يكون امتلاكها فائضا من الأسلحة من بين أدواته الرئيسية، ما يشي أن حماس لن تملك رفاهية المقاومة على إطلاقها وعليها التفكير جديا في ضبط توجهاتها، ومنح أولوية للبعد السياسي، والقيام باستدارة تتناسب مع التطورات المتلاحقة، فمعركة إعادة الإعمار التالية لوقف الحرب سوف تصبح طويلة، وأي تواجد لحماس في قلبها يعني إجهاضها مبكرا، ويظل سكان القطاع يعيشون فوق الركام.
يتطلب ضبط سلوك الحركة، القبول بمصالحة فورية مع الحركات الأخرى، وتتوارى نسبيا وتترك مساحة لغيرها لإدارة القطاع، على أمل أن تتمكن المجموعة العربية من وضع الحصان أمام العجلة في إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية، وحشر إسرائيل في زاوية تجعلها لا تستطيع الفكاك مما سيأتي من استحقاقات سياسية، ونزع حجج تستند عليها، من قبيل الانقسام الفلسطيني، وعدم الوثوق في عدم سيطرة حماس على غزة.