قبل مغادرته ليبيا نهائيا، جال المبعوث الأممي المستقيل عبدالله باتيلي بين أبرز الفرقاء مصحوبا برئيسة البعثة الجديدة بالوكالة ستيفاني خوري، الدبلوماسية الأميركية المخضرمة المتحدرة من أصول عربية لبنانية، والقادمة على صهوة طموحات واشنطن لتكريس نفوذها في غرب ليبيا في مواجهة النفوذ المتنامي ليس في شرق وجنوب البلاد فحسب وإنما أيضا في المنطقة ككل.
ذهب باتيلي وخوري إلى رئيس مجلس الدولة محمد تكالة، حيث تم التطرق إلى جملة من الملفات المهمة من بينها الخيارات السياسية المطروحة للمرحلة القادمة. ذكر تكالة بأنه كان من داعمي مبادرة باتيلي حول الطاولة الخماسية، ولفت إلى أن التشدد غالبا ما كان من الطرف المقابل، في اليوم الموالي، أعلن مجلس الدولة رفضه لميزانية الدولة للعام 2024 المقدمة من قبل حكومة أسامة حماد، والمصدّق عليها من قبل مجلس النواب. لم ينس المكتب الإعلامي للمجلس أن يشير إلى أن خوري “ستباشر خلال الفترة المقبلة مهام رئيس البعثة، حيث ستطرح رؤيتها ومقترحاتها للوصول إلى توافقات تنهي مرحلة الانقسام”، وهو ما تم طرحه على المجلس الرئاسي، ويرى فيه البعض محاولة من واشنطن لحلحلة الأزمة بما لا يخل بخارطة التوازنات السياسية والأمنية والاجتماعية الحالية.
باتيلي وخوري اتجها إلى مقر رئاسة مجلس الوزراء، حيث استقبلهما رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة، وناقش معهما آخر تطورات الملف السياسي، والدور المهم لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، وجهودها الرامية إلى الدفع بالعملية السياسية من أجل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وفق قوانين عادلة ونزيهة.
الدبيبة كان واضحا في تأكيد موقفه من العملية السياسية، فهو رافض بشكل قاطع لمقترح تشكيل حكومة موحدة تشرف على إدارة المرحلة القادمة، ويؤكد بوضوح أنه لن يسلم مقاليد الحكم إلا لمن يختاره الشعب عبر صندوق الاقتراع.
في ضاحية الرجمة ببنغازي، كان هناك لقاء بين قائد الجيش الجنرال خليفة حفتر، والمبعوث الأممي المستقيل وخليفته بالوكالة بحضور رئيس حكومة الاستقرار أسامة حماد. قال المكتب الإعلامي لقيادة الجيش إن اللقاء ناقش آخر التطورات السياسية للأزمة الليبية، والتباحث حول أهمية مواصلة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا جهودها الرامية إلى الدفع بالعملية السياسية من أجل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة تحقيقا لتطلعات الشعب الليبي.
المحاور ذاتها تقريبا، تم تداولها أثناء استقبال باتيلي وخوري من قبل رئيس المجلس الرئاسي محمد يونس المنفي الذي أكد على استعداد المجلس الدائم لدعم جهود البعثة من أجل الوصول بالليبيين إلى هدفهم المنشود وهو تنظيم الانتخابات.
كان هدف باتيلي من جولته بين الفرقاء الليبيين، هو تبليغ رسالته الأخيرة بخصوص ضرورة العمل على تجاوز أسباب الصراع والانقسام، وهو الذي يدرك جيدا، أولا أن هؤلاء الفرقاء غير راغبين في التوصل إلى الحل السياسي، وغير مهتمين بأن يحقق الشعب إرادته الحرة المستقلة عبر صندوق الاقتراع. وهم يعملون كل ما في وسعهم للحفاظ على امتيازاتهم الحالية السياسية والدبلوماسية والمالية والاجتماعية، ولا يرون مانعا من أن يكونوا أدوات لهذا الطرف الخارجي أو ذاك طالما أن مصالحهم مضمونة.
ثانيا، يدرك باتيلي أن الحل السياسي في ليبيا لا يزال بعيدا، وأن ترتيبات الوضع النهائي لن تكون بأيدي الليبيين، وإنما بأيدي القوى الخارجية الإقليمية والدولية: الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وتركيا ومصر وغيرها، وهي تحتاج إلى الحسم في جملة من الملفات الإقليمية الأخرى كالحرب في السودان والحرب في غزة وتمدد موسكو في دول الساحل والصحراء.
في نوفمبر الماضي، تقدم باتيلي بمبادرة الطاولة الخماسية التي ذهبت أدراج الرياح بسبب عدم وجود نية لدى الفرقاء الأساسيين لإخراج البلد من النفق المظلم الذي لا تزال تعيش في تبعاته منذ 13 عاما. في منتصف أبريل – نيسان الماضي، اضطر إلى تقديم استقالته تحت الضغط الداخلي والخارجي بعد وقوعه في الفخ. يمكننا القول إن الحالة السياسية في ليبيا تكاد تكون لعبة ساذجة، وإن جميع المبعوثين التسعة الذي مروا بالبلاد منذ 2011 غادروا مهامهم إما مقالين أو مدفوعين إلى الاستقالة أو فارّين بجلودهم من زحمة المواجهة.
قدم باتيلي لخوري صورة كاملة عن خفايا المشهد الليبي، وكشف لها حقائق كثيرة كان قد اطلع عليها خلال فترة عمله التي تواصلت 18 شهرا، لم يحقق فيها شيئا غير معرفة ما يدور في الكواليس ومن وراء الستار سواء في طرابلس أو في بنغازي أو في العواصم المؤثرة.
برحيل باتيلي تباشر خوري مهامها، وهي مدفوعة بالكثير من الحماس، لكن جميع المؤشرات تؤكد أنها لن تحقق شيئا يذكر، وستكتفي بمتابعة نفس الفرقاء وهم يتحركون في فضاء المناورة من أجل الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم، لتجد نفسها مجبرة بعد أشهر على الاستقالة كمن سبقوها. لن تكون سوى حلقة جديدة من سلسلة الأزمة.