إن عاجلاً أم آجلاً، كشف العدوان المستمر على غزة منذ أكثر من خمسة شهور عن عدد من الحقائق، قد تكون معروفة لكثيرين، لكنها اليوم باتت جلية للمضللين وللمشككين أو حتى الحالمين.
والحقيقة الأولى والأهم أن الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين جاء بهدف البقاء، والمجتمع اليهودي الصهيوني داخل أرض فلسطين كلها يتطلع ويخطط ويسعى لتفريغ الأرض من غالبية الفلسطينيين، وما كانت عملية السلام برمتها مع الفلسطينيين، إلا مرحلة لتمرير ذلك الهدف. الحقيقة الثانية، أن الولايات المتحدة شريكة للاحتلال في تحقيق أهدافه، ولم تلعب يوماً دوراً وسيطاً نزيةً بين الفلسطينيين والإسرائيليين. والمشكلة أن هذه الحقيقة كانت واضحة بجلاء لنا كفلسطينيين.
لكننا تغافلنا عنها طوال السنوات الماضية، لأسبابقد تنبع عن ضعف أو وعود مضللة أو ارتبطت بمصالح فردية ذاتية.
والحقيقة الثالثة، إن ارتباط الأنظمة العربية بمصالح وتحالفات مع الولايات المتحدة خلف منظومة من التفاهمات تناست أو تغاضت أو تغافلت عن حل القضية الفلسطينية ومستقبل الفلسطينيين، في سبيل تحقيق مصالحها مع الولايات المتحدة، التي تعمدت تحقيق أهداف الاحتلال في ذلك.
وما نشهده اليوم من عجز تلك الأنظمة العربية القيام بمجرد تهديد الولايات المتحدة أو إسرائيل بالتدخل لحماية آلاف الأرواح البريئة التي تزهق في غزة، أو العجز بكسر الحصار وادخال الماء والطعام والدواء للغزيين الذين يموتون بسبب ذلك الحصار، إلا تجسيداً آني لتلك الحقيقة.
واستكمالاً لتلك الحقيقة، يعتبر إدخال المساعدات للفلسطينيين جواً أو حتى بحراً استهانة بالعقول، في ظل الصمت الدولي على استهداف غارات الاحتلال لأي جهة منظمة لتوزيع تلك المساعدات.
فتحليق الطائرات في سماء غزة لا يكون إلا بإذن اسرائيلي، وكان الأولى في ظل وجود هذا الإذن إدخال المساعدات برياً عبر حدود طويلة وممتدة مع مصر ومع تلك التي يسيطر عليها الاحتلال، وخاصة ونحن نتحدث عن مساعدات موجة لأكثر من ٢ مليون إنسان، وليس لسفينة وسط البحر. كما لا تخرج عن تلك الحقيقة أيضاً عن تلك التسريبات التي تفيد بوجود جسر بري يمر بالدول العربية لتوصيل البضائع لدولة الاحتلال، والتي تعقد وصولها عبر البحر، في ظل حصار الحوثيين لمدخل البحر الأحمر.
الحقيقة الرابعة، أن الولايات المتحدة عملت على تقويض قدرات أي نظام عربي وقف ضد إسرائيل في المنطقة، لترسيخ وجودها فيها كهدف رئيس. وما كان مخطط الفوضى الخلاقة، الذي كشفت عنه أروقة صنع القرار الأميركية في عهد جورج بوش الابن.
وجاء صراحة على لسان وزيرة خارجيته كونداليزا رايس، إلا مقدمة في طريق من تنفيذه. ولا نزال اليوم نشهد تطورات وتفاعلات تلك الفوضى المختلقة في المنطقة، والتي دفعت ولاتزال القضية الفلسطينية الكثير في ظل تفاعلاتها.
ركزت مخططات الفوضى التي وضعتها الولايات المتحدة للمنطقة على القضاء على نظام صدام حسين في العراق، الذي عادى صراحة إسرائيل، وكذلك على على نظام القذافي في ليبيا،الذي رفض تطبيع العلاقات مع الكيان المحتل، بعد تدخل غربي مشبوه لحسم تفاعلات الثورة فيها. كما جرى إضعاف النظام السوري، حليف روسيا الأول في المنطقة، وباتت تعاني سوريا من آثار تلك الفوضى حتى اليوم.
وتتصاعد الفوضى في الإقليم منذأن بدأت الولايات المتحدة ببث مخططاتها تجاه دوله، فطالت العديد من الدول، ومنها حليفة للولايات المتحدة، وبطرق وأشكال مختلفة، ولاتزال تفاعلات تلك الفوضى مستمرة.
الحقيقة الخامسة، إنالدول الغربية، حليفة الولايات المتحدة ورافعتها الأولى، تبقى ملتزمة باستراتيجيتها وتتطابق مواقفها معاً تجاه إسرائيل، وهي موقف أيدولوجية مصلحية عميقة، ليس من اليسر توقع تبدلها. وتبقى تحركات الشارع في تلك البلدان، الداعمة للحق الفلسطيني، تحت السيطرة، في ظل موازنة الحكومات بين الخطاب والفعل، دون الخروج عن القاعدة.
الحقيقة السادسة، إن وجود الكثير من أنظمة دول العالم التي تدعم الحق الفلسطيني المشروع، والتي تظهر في نتائج التصويت في الجمعية العامة حول مواضيع تتعلق بفلسطين، لا يعني أن تلك الدول تستطيع ا أن تتحدى الولايات المتحدة والعالم الغربي، وتخوض معركة وجودية ليست معركتها في الأساس، إلا في حدود مضبوطة لا تخل بمصالحها.
الحقيقة السابعة، إن أخلاقية وعدالة القضية الفلسطينية جلية بينة دون أدنى شك، ورغم ذلك يشهد العالم اليوم حملة تضليل وتلفيق وادعاء إسرائيلية غربية واسعة، لم تبدأ اليوم، وإنما استمرت عبر العقود الماضية، الأمر الذي جعل قضية عادلة كالقضية الفلسطينية عالقة حتى اليوم دون حل.
فالوضع القانوني لفلسطين كدولة محتلة لا خلاف قانوني حوله، وبين الدول الغربية نفسها، ورغم ذلك، وفي خطاب متواصل، تصاعدت نبرته خلال عدوان الاحتلال الأخير على غزة، يتواطأ مع كيان الاحتلال، سواء في اعتدائه على الفلسطينيين في الضفة والقدس أو في العدوان البربري على غزة، وذلك بالادعاء بوجود حق للاحتلال بالدفاع عن نفسه.
إن حق الدفاع عن النفس لا يمنح قانونياً لدولة الاحتلال أو الدول المعتدية، وإنما يمنح للدول والشعوب المعتدى عليها والمحتلة، فحق الدفاع عن النفس وحق تقرير المصير حقوق أصيلة للفلسطينيين بحكم القانون الدولي.
لكن الحقيقة الأهم من الحقائق السبعة سابقة الذكر هي الحقيقة التي تتعلق بالقضية الفلسطينية، فما قبل ٧ أكتوبر بات يختلف عما قبلها، وهي حقيقة يمكن البناء عليها، دون اغفال للحقائق سابقة الذكر.
اليوم يشهد العالم إعادة تعريف للقضية الفلسطينية، بعد أن انكشف القناع عن وجه الاحتلال الاسرائيلي القبيح، الذي عمل الغرب على مداراته والتستر عليه، بحكم الشراكة، طوال العقود الماضية. اليوم ينتشر المدافعون عن القضية الفلسطينية في كافة أرجاء العالم بما فيه العالم الغربي، الأمر الذي يسهل مهمة الفلسطينيين على المستوى الدولي.
على المستوى الفلسطيني، يبدو الوضع كارثياً، فاستمرار الانقسام، وصراع الأحزاب، أساء لقضيتنا، بعد أن صار الحزب هو القضية، فالأحزاب تشكلت في الأساس من أجل نصرة قضية فلسطين، وليس العكس. وعليه، فقضية فلسطين يتحمل مسؤوليتها الشعب الفلسطيني كله، في جميع مناطق تواجده، والقيادة الفلسطينية تفرز من قبل بين أبناء هذا الشعب، وطرق فرزها معرفة، فتنظيم الصفوف أول المهمات.
وأما على المستوى العربي، فبات جلياً أن ما ينسجم مع مصالح الدول العربية الحليفة مع الولايات المتحدة لا يتوافق مع مصالحنا كفلسطينيين، فالسلام مع الكيان المحتل، الذي يستبيح الأرض والدم والمقدسات الفلسطينية، ليس طريق الفلسطينيين، وعليهم البحث عن حلول أخرى، حتى وإن اختلفت مع تلك الدول، فمصلحة القضية الفلسطينية فوق مصلحة الآخرين، وعلى الآخرين أن يختاروا إما مع القضية الفلسطينية أو عليها.
كما أن الولايات المتحدة والدول الغربية، حلفاء إسرائيل وشركائها، ليست الحليف أو الصديق الأمثل للفلسطينيين، خصوصاً في ظل تعدد الخيارات، وصعود أقطاب جديدة في المنظومة الدولية المتغيرة، وعلى الفلسطينيين بناء تحالفات عميقة مع أطراف جديدة.
على الفلسطينيين وضع الولايات المتحدة في مكانها الحقيقي، وهي عدوة، ولا يمكن أن تكون في مكان آخر. فبالاضافة إلى الدعم العسكري والاستخباري والتقني والاقتصادي والسياسي لإسرائيل عبر العقود، تبنت روايتها المضللة في هذه الحرب دون مواربة، أو تحقق، والتي أثبتت الأيام بعد ذلك كذبها وتلفيقها.
وتستخدم إسرائيل أسلوب الكذب والتشكيك في منفذ الجرائم التي ترتكبها، لامتصاص الغضب الدولي في لحظة حدوثها، وهو تكتيك بات متداولاً.
وظهر ذلك التبني الأميركي الأعمى للرواية الاسرائيلية في حيثيات هجوم السابع من اكتوبر، وفي الجريمة الاسرائيلية بالاعتداء على مستشفى المعمداني، وبالادعاءات الاسرائيلية حول تحصن مقاتلي حماس في المستشفيات دعما لاستباحتها، وفي التشكيك باعتداء الاحتلال على الفلسطينيين خلال تجمعهم بالقرب من قافلات المساعدات، والآن بالتلميح والترويج بأن حماس المسؤولة عن فشل الهدنة، رغم أن تصريحات المسؤولين الاسرائيليين أنفسهم تفيد بغير ذلك. لذلك، على الفلسطينيين الحذر في هذه اللحظات العصيبة، من هذا العدو المتلون، في غير صالحهم.