أوروبا

حفل أولمبياد باريس.. انتحار ما بعد الحداثة

أولمبياد باريس كان انتحارًا لما بعد الحداثة وإن لم يكن ذلك الانتحار متوقعًا لكنه فعليًا حدث، بقي أن ندرك توابع الزلزال وما سيفضي إليه

ما بعد الحداثة مفهوم معقّد، وليس هذا موضع تفكيكه، ولكن حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 بفجاجته وانغماسه المفرط في التفكيك وإعادة التركيب بعبثية مفرطة، ناهيك عن تحطيمه الثوابت الثقافية فضلًا عن الدينية، فإنه يعبّر عن خروج المارد من قمقمه، ويلخص معضلة ما بعد الحداثة، أو بعبارة أخرى أزمة عدم اليقين الحادة.

فالإساءة للمسيح وأمه عليهما سلام الله، والترويج لنقائض الفطرة، والعبث بكل شيء، وافتقاد الحد الأدنى من الجمال، هو تعبير حقيقي عن خواء روحي وغياب لرؤية كلية لهذا الوجود تمنح الإنسان موقعه فيه بوضوح، وتجعله كائنًا مكرمًا ذا روح وجسد صالحين لمهام عليا ذات قداسة حقيقية.

وبقراءة هادئة فإن الحداثة قد بدأت بالعقلانية بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر، ثم النزعة الإنسانية وبداية التنوير والنهضة الأوروبية من القرن الخامس عشر حتى الثورة الفرنسية، حيث ما يسمى بعصر الأنوار، انتهاء بقرن فقدان الإيمان في القرن التاسع عشر، ومع القرن العشرين بدأ عصر القلق خاصة مع خيبات الحربين العالميتين، ثم الحرب الباردة، حيث بدت الأيديولوجيا عاجزة عن الإجابة عن أسئلة الواقع، والفلسفة لم تشبع كل نوازع الإنسان، ومن هنا انبثقت الفلسفة الوجودية وغيرها.

في فرنسا عام 1968م حدثت اضطرابات الطلاب المشهورة التي أجبرت جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على التنحي، حيث توجت تلك الاضطرابات عقد الستينيات المتسائل، وانطلقت موجة ما بعد الحداثة منذ ذلك الوقت، وطرحت أسئلة المعنى، والجدوى، واليقين الفلسفي، وأدى هذا لحالة من العبثية، والعدمية، وانفتاح الأقواس، وهنا تداخلت التيارات الفكرية كثيرًا.

الدوامة التي تعيشها ما بعد الحداثة ليست راجعة للابتعاد عن الفطرة ذاتها، ولكن لغياب المعيارية أو الانضباط العقلي، أو المرجعية الكلية الضابطة للمجتمع، وذلك عبر تقنين الاختيارات الفردية، وتكريس الفردانية عقيدة ترى الإنسان أسمى ما في الوجود، لكنها تتيح له الانطلاق بلا ضوابط، وهو ما يناقض شيئًا جوهريًا في طبيعة الإنسان، وهو أنه مدني جماعي بالطبع لا يعيش وحده، ولا يستطيع أن يبقى وحده، أو يقوم بكل المهام التي تخصه لوحده.

ولهذا فهو بحاجة للآخرين ومن هنا تبقى الحاجة قائمة للمعايير الضابطة وإلا سينفرط المجتمع وينغمس في صراع وحشي مدمر، أو بمعنى آخر قريب من فلسفة الفرنسيين: سيحدث تفكيك للعقد الاجتماعي والمؤسسات الناشئة عنه.

وإذا كانت العلمانية وليدة النهضة الأوروبية فكريًا وصلح ويستفاليا سياسيًا، وقد قررت إبعاد الدين عن الشأن والمجال العام أي جعل الدين داخل مكان العبادة أو المنزل فقط، فإن ما بعد الحداثة قررت التدخل في بنية الدين، والتعامل معه وتفكيكه أيضًا، وإعادة بنائه بحيث باتت تظهر تأويلات وتفسيرات جديدة له، تجعل الدين مجرد ثقافة، وليس عقيدة تقرر مصير الإنسان في عالم خارج هذا العالم.

ومن هنا أعيدت صياغة دور الدين في الحياة العامة، وقبول الباطنيات، والإقبال عليها بل ونشوء جماعات القداسة الجديدة، حيث تجد الدين حاضرًا بصورة رمزية فقط بينما يجري إعادة تفسير الطقوس والرموز بصور متجددة.

إقرأ أيضا : هدنة ماكرون الأولمبية

سياسيًا فإن ما بعد الحداثة كان وليد مشاكل الأيديولوجيا حيث لم تشكل بعد هوية سياسية وأيديولوجية اقتصادية واضحة تتجلى وتظهر في صورة أحزاب، فحتى العولمة لم تقدم بديلًا سياسيًا بل جعلت الاقتصاد يتحكم في السياسة، ويصوغها، ويشكلها كيفما يريد، بينما بقيت المؤسسات السياسية والأيديولوجيات والأحزاب كلها مصبوغة بطابع القرن العشرين متكئة على ميراثه وإن تطورت صيغها ظاهريًا، ولم تستطع الاستجابة لروح المجتمع، ولا احتياجاته الحقيقية.

والسبب هو الفردانية والنسبية المطلقة في بنية ما بعد الحداثة، ما يعزز التفكك، والتفتت، ويتمرد على المعايير، ما أدى لموجات من القلق الاجتماعي انعكست على السياسة والاقتصاد، فارتدت أوروبا والولايات المتحدة نحو الشعبوية في الخطاب والتطرف ضد المختلف وفرض الإملاء عليه.

وهذا ربما ما يفسر لماذا تتكرر تجارب الانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومات بصورة متسارعة أكثر من ذي قبل، ويفسر كذلك الموجات الاحتجاجية القلقة بين فترة وأخرى، ويفسر حتى ثورة الجامعات الأميركية.

أولمبياد باريس كان انتحارًا لما بعد الحداثة وإن لم يكن ذلك الانتحار متوقعًا لكنه فعليًا حدث، بقي أن ندرك توابع الزلزال وما سيفضي إليه، فبلا شك أن هزيمة الدين -بما فيه المسيحية غربًا- بعدم إدانة ما حدث أو الحديث عنه حتى -وإن كان هناك همس حول حديث الكنيسة تجاه ذلك-، فإن الأمر سيعني المزيدَ من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ظل عصر أكثر قتامة.

وإذا استعاد الدين حضوره -ولو كان المسيحي- فإن هناك الكثير مما سيحدث على الساحة، وهذا يحتاج حلف فضول بين المدافعين عن الفطرة والمعيارية الأخلاقية والفهم العميق لروح الإنسان، وبهذا الاعتبار فالإنسان سيعود للدين حتمًا بصورة من الصور، ولعلّ موجات اعتناق الإسلام الراهنة سيكون لها بصمتها كذلك في الخريطة العامة للأديان والفكر، وستترك بصمة على السلوك العام بشكل عام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى