أمريكا

حظر تيك توك.. وانفلات القبضة الأميركية

الرئيس السابق ترمب، والأكثر حظاً في ترشيح الجمهوريين له في الانتخابات الرئاسية المقبلة نهاية العام الجاري، كان له السبق في تقييد وحصار كثير من الشركات الصينية -وأشهرها شركتا «هواوي» و«زد»- وطردها من السوق الأميركية.

لم تعد تطبيقات التواصل الاجتماعي موضوعاً يخص شركات تكنولوجيا المعلومات بغرض المنافسة والابتكار وجذب مزيد من المتعاملين، ومن ثم تحقيق مزيد من الأرباح التي تُمكِّن من صنع تطبيقات أكثر جاذبية وأكثر تأثيراً في حياة الأجيال الجديدة؛ بل صارت موضوعاً يخص استراتيجيات القوى الكبرى التي تحتكر صنع تلك التطبيقات، وتتنافس فيما بينها حول قيادة العالم ولو في مجالات معينة، أبرزها الذكاء الاصطناعي، والسيطرة على أكبر كم ممكن من المعلومات التي تخص البشرية بأسرها، ومن ثم القدرة على صنع اتجاهات معينة تخدم تلك الاستراتيجيات، وتحاصر الاستراتيجيات المنافسة.

الثابت أن تطبيقات التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية؛ لا سيما التي يتم تفعيلها جماعياً أو فردياً عبر شبكة الإنترنت، تعد مصدراً خصباً للمعلومات عن تفضيلات الأفراد والمجموعات المتماثلة في مجتمع معين، أو عبر أكثر من مجتمع، ومعرفة اتجاهاتهم؛ سواء في الحياة اليومية العادية، أو في المناسبات الخاصة، كالانتخابات التي تُجرى في بلدان مهمة للعالم، كالولايات المتحدة وروسيا ودول أوروبا المختلفة، أو للتعبير عن موقف معين تجاه أزمة دولية أو إقليمية أو قضية ساخنة، حتى ولو لم تكن تمس مباشرة الشخص ذاته، كتلك التي تتفاعل مجرياتها في غزة، وصاحَبتْها مشاعر وتوجهات متصاعدة عبر العالم، تبلورت في تطبيقات التواصل الاجتماعي، بما فيها «تيك توك»، وتصب في إدانة ورفض السلوك الإسرائيلي التدميري، والتعاطف الجارف مع الفلسطينيين وما يقاسونه من معاناة لم يحدث مثلها في التاريخ الحديث.

كلمة السر هنا هي المعلومات، وما خلفها من قدرة على صنع اتجاهات تخدم استراتيجية بعينها دون غيرها، وتؤثر في مسارات أحداث عالمية، وتترتب عليها بلورة مصالح دون أخرى، بما في ذلك مصالح شركات تكنولوجيا الاتصالات والتواصل الاجتماعي وابتكار التطبيقات الحديثة؛ لا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي الآخذ في الانتشار بسرعة غير مسبوقة.

وما يحدث الآن في الولايات المتحدة من جدل سياسي صاخب بشأن حظر أو لا حظر، بيع أو لا بيع، تطبيق «تيك توك» الترفيهي ذي المنشأ الصيني، يعبِّر عن هذا الخليط من الأبعاد والمتغيرات المتشابكة ما بين السياسة من جانب، والتكنولوجيا وتطبيقاتها المتنوعة من جانب ثانٍ، والهيمنة على المعلومات وصنع الاتجاهات لدى الرأي العام محلياً وعالمياً من جانب ثالث، والتأثير بشكل ما على أحداث كبرى، وما يتعلق بها من مصالح كبرى واستراتيجيات تهتم بصنع المستقبل لتحقيق تلك المصالح الكبرى من جانب رابع.

فالجدل هنا وما ينتج عنه من توجهات متباينة ما بين غرفتَي التشريع الأميركيتين، يكشف حجم المخاوف الحقيقية والمصطنعة معاً من انفلات المعلومات من القبضة الأميركية، والخشية من تفوق طرف خارجي في التحكم في المعلومات التي تخص الأميركيين كما تخص مجتمعات أخرى، وبالتالي -وفقاً لدعاة الحظر- التدخل من قوة عدو ومنافس شرس في الشأن الداخلي الأميركي، الأمر الذي يبدو لدى كثيرين مليئاً بالمبالغات غير الواقعية.

فمجلس النواب مع سرعة تطبيق مشروع القانون الخاص بحظر التطبيق على الأراضي الأميركية، أو دفع الشركة الصينية إلى بيع التطبيق إلى مستثمرين أميركيين كلياً أو جزئياً، بينما يرى «الشيوخ» أن حظر التطبيق بصورة سريعة تترتب عليه مخاطر عدة، والبحث فيه سوف يستغرق أشهراً عدَّة لتمرير القانون؛ سواء في صورته التي أقرها النواب أو مع بعض التعديلات، أو ربما رفضه تماماً.

الموقفان يجسدان قدراً كبيراً من الضبابية السياسية، تزداد حدتها مع الموقف المُعلن من إدارة الرئيس بايدن الذي يتحمس شخصياً لسرعة إصدار القانون، بما يدعم موقفه الانتخابي بوصفه رئيساً يحافظ على أسرار وخصوصيات الأميركيين، ويواجه بقوة الصعود الصيني تكنولوجياً من دون تردد، ويعمل على إضعاف الشركات الصينية وإخراجها من سوق المنافسة مع نظيراتها الأميركية، والتي تبدو رغم وفرة الإمكانات لديها ونجاحها الباهر في مجالات كثيرة، في حال تراجع نسبي أمام كثير من التطبيقات الصينية ذات الشهرة العالمية، الأمر الذي يُنظر إليه باعتباره نذيراً سيئاً بالنسبة لاستمرارية هيمنة الولايات المتحدة على إدارة النظام الدولي.

ولا ننسى أن الرئيس السابق ترمب، والأكثر حظاً في ترشيح الجمهوريين له في الانتخابات الرئاسية المقبلة نهاية العام الجاري، كان له السبق في تقييد وحصار كثير من الشركات الصينية -وأشهرها شركتا «هواوي» و«زد»- وطردها من السوق الأميركية، بزعم أنها شركات توفر معلومات الأميركيين للحكومة الصينية التي تستخدمها للإضرار بالمصالح الأميركية.

الجانب السياسي الاستراتيجي على النحو السابق، تصاحبه أيضاً عدة إشكاليات عملية وقانونية مثيرة وجديرة بالتأمل. فتطبيق «تيك توك» يندرج في فئة تطبيقات الترفيه المتاحة لكل الأعمار. والغالبية الساحقة من رواده هم من فئتي الفتيان والشباب من الجنسين، ما بين 8 أعوام و20 عاماً، والذين يُطلق عليهم جيل «ألفا» الذي يلي الجيل «زد»، والمولودين في العقدين الماضيين، وهما العقدان الأولان في القرن الحادي والعشرين.

ووفقاً للدراسات السلوكية، يُعد هذا الجيل الأكثر ارتباطاً بتطبيقات الترفيه ووسائل التواصل الاجتماعي، ويعدُّونها أساسية في حياتهم اليومية والمهنية معاً، كما ينظرون إلى تلك التطبيقات باعتبارها الوسيلة التي تثبت حريتهم وتمكنهم من بناء معارفهم، وفقاً لما يرونه من تفضيلات أكثر تعبيراً عن طموحاتهم وتصوراتهم عن أنفسهم. وتبدو عبارة دونالد ترمب، الرئيس الأميركي السابق، حول جنون الشباب والأولاد الأميركيين إذا ما تم حظر «تيك توك» في الولايات المتحدة، إشارة واقعية؛ لا سيما أن عدد متابعي التطبيق الأميركيين يتجاوز 170 مليون مشترك من كل الأعمار.

وإلى جانب الواقعية في تلك الإشارة، فإنها تلمح إلى تعديل ترمب موقفه من هذا التطبيق تحديداً، وهو الذي سعى في الأشهر الأخيرة من ولايته قبل 3 سنوات إلى حظر التطبيق كجزء من حملته المناهضة للصين ومنتجاتها الشهيرة في عالم التكنولوجيا والاتصالات.

حرية المعرفة وبناء الشخصية دون سطوة من أحد، والتعبير عن الذات من دون قيود، تعد قيماً ومبادئ جوهرية لدى جيل «ألفا»، وإذا ما حُظر التطبيق الذي يرونه وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها، فقد يترتب عليه توجهات ذات طابع عدائي ضد منظومة السياسة الأميركية كلها، وغالباً سوف تتولد عنها مواقف تصويت رافضة لكل من دعم حظر التطبيق وحرمان جيل بأكمله من حرية التعبير.

د. حسن أبو طالب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى