حظر الأونرا ومستقبل القضية الفلسطينية
لقد جاءت مصادقة الكنيست صادمة للمجتمع الدولي وهيئاته، فقد اعتبرت حكومات ايرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا في بيانٍ مشترك أن «تشريع الكنيست سابقة خطيرة لعمل الأمم المتحدة»، بينما طالبت فرنسا وكندا وبريطانيا ودول أخرى بالحفاظ على حصانة الأونروا.
حظر الأونرا ومستقبل القضية الفلسطينية
مرة أخرى تعود قضية الأونروا إلى الظهور على السطح مجدداً كقضية مثيرة للجدل والاستنكار في هذه الآونة، بعد مصادقة «الكنيست الإسرائيلي» على إقرار قانونين لرفع الحصانة، ووقف عمل الأونروا، والاتصال معها في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة. تأتي هذه المصادقة بعد سلسلة ممنهجة من الاعتداءات والاتهامات طالت المنظمة الأممية ومنشآتها ودورها وموظفيها، في ظل العدوان الإجرامي المستمر على الشعب الفلسطيني منذ عام وقرابة الشهر.
يحمل هذا التطور في طياته أبعاداً خطيرة على مستقبل القضية الفلسطينية، وانعكاسات سلبية على حياة اللاجئين الفلسطينيين الخدمية والمعيشية، وأيضاً على دور المنظمات والهيئات الدولية الأخرى العاملة في المجال الإغاثي، وتقديم المساعدات، ويأتي هذا الإقرار تتويجاً لإجراءات رفض قادة الاحتلال، «إدخال المساعدات إلى شمال غزة إلا القليل منها»، كما جاء على لسان الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش. وترافق أيضاً مع تأجيل المرحلة الأخيرة من حملة لقاح شلل الأطفال؛ ما يهدد حياة آلاف الأطفال في شمالي غزة بالموت.
من الواضح أن ما يتم من إجراءات بحق الأونروا، هو استكمال لعمليات الإبادة بكل أشكالها، التي تمارسها دولة الكيان بحق المدنيين الأبرياء في شمالي غزة، وهي محاولة أيضاً من قوات الاحتلال لإخفاء الجرائم والإعدامات التي تقترفها بحق الفلسطينيين هناك، بإبعاد الشاهد (الأونروا) عن مسرح الجريمة المستمرة منذ شهر في جباليا ومخيمها، وفي بيت لاهيا ومشفى كمال عدوان، الذي خرج عن الخدمة بالكامل بعد تدمير أقسامه.
إن إلغاء حصانة الأونروا وحظر عملياتها في بعده الأول، يعتبر ضرباً للإرادة الدولية والمجتمع الدولي، وتجاهلاً صارخاً لكل القوانين والمواثيق والأعراف، التي تحمي المنظمات والهيئات الدولية، وتمنحها الحصانة والولاية، وتُمكِّنها من تقديم خدماتها الإنسانية، خاصةً زمن الحروب والكوارث، وتخلياً عن التزامات دولة الاحتلال بقرارات الأمم المتحدة، خاصة القرارين 194 و302 اللذين يضمنان الحماية الأممية للفلسطينيين وحقهم بالعودة.
وفي البعد الثاني، يُمهد بشكلٍ أوّلي لإنهاء مهام الأونروا بشكلٍ كامل ليس في الأراضي الفلسطينية المحتلة فحسب، بل في باقي مناطق عمليات الوكالة الدولية، وبالتالي حرمان ستة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين من الاستفادة من خدماتها في مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، وحرمان نحو 34 ألف موظف فلسطيني من فرص العمل فيها.
وفي البعد الثالث، إنه محاولة جادة لتصفية القضية الفلسطينية عبر إنهاء عمل الأونروا، لما تمثله من علاقةٍ عضوية ترابطية ووجودية بقضية اللاجئين وحق العودة، ولكونها الشاهد الأممي الأهم والرئيسي على النكبة والمأساة الفلسطينية منذ 1948، ولعل ما صرح به لازاريني المفوض العام للأونروا، تأكيد لحقيقة «أنّ الهدف الرئيسي للهجوم على الوكالة هو نزع صفة اللجوء عن الشعب الفلسطيني». وكذلك لما تُشكله الأونروا من إطار جامع للاجئين الفلسطينيين في كلٍ من الأراضي الفلسطينية المحتلة وسوريا ولبنان والأردن.
أما في البعد الرابع فإنه يتمثل بمحاولة تقويض الجهود القانونية ضد قادة الاحتلال، وبالتالي الحصول على صك براءة لهم من جرائم الإبادة الجماعية، التي ارتكبوها في منشآت الأونروا ومدارسها؛ بزعم أن فيها أنفاقاً ومراكز قيادة لحماس، وأن عدداً من موظفيها شاركوا في عملية السابع من أكتوبر، وأن «الأونروا تعمل كجناحٍ مدني لحماس»، كما صرح بذلك كاتس وزير خارجية الكيان في بداية الحرب.
ولكن ما جاء في تقرير كاترين كولونا رئيسة اللجنة الأممية المستقلة للتحقيق في مزاعم دولة الكيان، يفند هذه الأكاذيب «الأونروا عملت باستمرار على ضمان الحياد في تعليمها، وتتّبع نهجاً للحياد، ربما كان أكثر تطوراً من أيّ نهجٍ في وكالات ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى». كذلك فنّد ادّعاء الاحتلال وزيف الرواية الصهيونيّة حول مشاركة 12 من موظفيها بعملية 7 أكتوبر، لعدم تقديم أدلة واضحة تثبت ذلك.
رغم كل ذلك، وإمعاناً بالسلوك اللاأخلاقي واللاإنساني واللاقانوني، يطالب نتنياهو عقب مصادقة الكنيست «بمحاسبة موظفي الأونروا الضالعين بأعمال إرهابية ضد إسرائيل». وفي بعده الخامس، يعتبر هذا الإقرار إهانة صارخة بحق جميع المنظمات والمؤسسات والهيئات الدولية العاملة على إغاثة الشعب الفلسطيني، وتقديم المساعدات له في ظل هذا العدوان المتواصل، ويشكل عامل إحباط وتثبيط لدورها الإنساني.
وفي البعد السادس، إنه تهديد خطير بالاعتقال أو القتل والملاحقة القانونية لآلاف العاملين في الأونروا، تحت بند التعامل مع منظمة إرهابية، أو الاتصال بها، كما سبق أن اعتبرها كذلك القرار «الإسرائيلي». وبناءً عليه يخشى موظفو الأمم المتحدة العاملون في قطاع غزة، من ارتداء ستر المنظمة الدولية، لأنها لم تعد تحميهم من الموت.
أما في البعد الأخير، فإن الهدف يكمن في تحويلها إلى مؤسسة تنموية إغاثية، تسعى لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في مناطق عملياتها السابقة، وتحويل المخيم، الذي يُشكّل رمزية اللجوء وحق العودة، إلى بلدة صغيرة أو تجمعٍ سكاني يذوب شيئاً فشيئاً مع جواره من التجمعات السكنية، ويُدمَج الوجود الفلسطيني في المحيط العربي، وتنتهي عندها جذور القضية ويُوأد إلى الأبد القرار الأممي 194 الضامن لعودة اللاجئين إلى ديارهم، ويُوأد أيضاً القرار 302 الذي شُكلت بمضمونه ولاية الأونروا.
اقرأ أيضا| الأسيرات الفلسطينيات.. مشاهد انتقامية داخل معتقلات الاحتلال
هذه العربدة «الإسرائيلية» في إهانة وتحدي المجتمع الدولي ومنظماته، ليست حديثة العهد، فقد سبق لمندوب «إسرائيل» بالأمم المتحدة جلعاد إردان أن وصف الأمم المتحدة بأنها «منظمة إرهابية في غزة». لذلك من الطبيعي بالنسبة لدولته المارقة، التي مارست الجرائم والإبادات الممنهجة، واحتلت المرتبة الأولى في العالم بإرهاب الدولة المنظم، أن تَتّهم منظمة أممية ذات دورٍ إنساني بالتّهمة ذاتها بهدف تصفية قضية اللاجئين، التي شَكّلت حالةً من الاستعصاء أمام المشروع الصهيوني التوسعي العدواني في المنطقة برمتها. وهنا نتساءل ألم يحن الأوان لطرد هذا الكيان المارق من الأمم المتحدة بعد كل هذه الإهانات والتجاوزات والانتهاكات؟
ورغم دبلوماسية إدارة الأونروا ممثلةً بمفوضها العام لازاريني، وما حملته من تنازلات، لم تثنِ دولة الاحتلال عن توجهاتها وخطتها التي سبق أن فضحتها القناة 12 ضد الأونروا. تمثلت هذه التنازلات بالعديد من الجوانب: أولها السماح بفرض أجندات «إسرائيلية وأمريكية»؛ تتعلق بمجالات نظام عمل الأونروا وهيكليتها ومناهجها، بعدما شيطنت عملها واتهمتها بعدم الحيادية. وثانيها، فصل 12 موظفاً دون تحقيق استجابة للتهم الكاذبة «الإسرائيلية».
وثالثها، الاكتفاء بالإدانة والاستنكار وعدِّ الضحايا من الشهداء والمصابين والمدارس ومراكز الأونروا المستهدفة، دون تحديد مسؤولية قوات الاحتلال عن ذلك. ورابعها، عدم التجرؤ على تقديم شكوى واحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو لمجرد عقد جلسة خاصة لمجلس الأمن للبحث بالتهديدات والمخاطر التي تواجهها.
وخامسها، أفرغت مناطق شمال غزة مؤخراً من خدماتها وموظفيها دون سابق إنذار، وتركت اللاجئين لمصيرهم تحت وابل القصف والرصاص، وشبح التجويع والتعطيش، ونشر الأمراض والأوبئة وتدمير البنى التحتية، وفقدان الحياة من حولهم. في واقع الأمر، لم تنج الأونروا من عقاب قادة الكيان رغم كل ما فعلته فأصابها ما أصاب «الثور الأبيض».
لقد جاءت مصادقة الكنيست صادمة للمجتمع الدولي وهيئاته، فقد اعتبرت حكومات ايرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا في بيانٍ مشترك أن «تشريع الكنيست سابقة خطيرة لعمل الأمم المتحدة»، بينما طالبت فرنسا وكندا وبريطانيا ودول أخرى بالحفاظ على حصانة الأونروا وتسهيل وصول المساعدات بشكل آمن. هذه المواقف لا تكفي لردع الصلف والعربدة الإسرائيلية، إذ لابد من تحرك أممي ودولي وعربي؛ لممارسة الضغط السياسي والدبلوماسي لحماية الأونروا ووجودها وولايتها، والوقوف أمام كل محاولات استهدافها، ومحاولات تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، ولإجبار قادة الاحتلال على التراجع عن قراراتهم، واتخاذ الإجراءات اللازمة بحقهم في حال عدم استجابتهم.
على الأونروا والهيئات الدولية الأخرى أن ترفع للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، ومحكمة العدل الدوليّة دعوى ضد قادة الاحتلال الذين استهدفوا مقراتها وطواقمها وموظفيها، وقتلوا واعتقلوا من احتمى تحت رايتها الزرقاء الأممية. ودعوة مجلس الأمن للقيام بتحقيقٍ مستقلّ في استهداف مقار وموظفي وطواقم الأونروا، والأخذ بعين الاعتبار بما جاء في تقرير كولونا، الذي رفضته الدولة المارقة، «التأكيد على دور الأونروا الذي لا يمكن استبداله أو الاستغناء عنه في المنطقة؛ لأنّ الأونروا تقوم بدور حيوي في الاستجابة الإنسانية في غزة». وعلى الصعيد الفلسطيني والعربي، سواء الرسمي أو الشعبي، يجب التحرك لتشكيل لجان اختصاصية حقوقية وقانونية، لرفع دعاوى للتحقيق مع قادة جيش الاحتلال لجرائمهم بقتل أكثر من 200 موظف من الأونروا وإصابة واعتقال وإخفاء المئات منهم.
ختاماً، طالما أن هذه القضية يُورِّثها الجد للأب للإبن والحفيد تمسكاً بالأرض والوطن والهوية والتاريخ، فإن هذا اللاجئ هو من يحمل مفتاح العودة، كما يحمل البندقية والقلم، هو الأمل المقبل لتحرير الأرض وكنس الاحتلال، لذلك يسعى التوراتيون الجدد، حسب معتقدهم الزائف للتخلص من كل ما يُشكل لهذا اللاجئ شريان الحياة والوجود، والشاهد الأممي على حقه بأرضه والشاهد الحي على استمرار معاناته ومأساته منذ 76 عاماً.