حصار غزة بالأسلحة والعطش
ما يمر به أهلنا في قطاع غزة هو المرّ بعينه، قتل وترهيب وتجويع وقهر،والماء باستخدامه أحد أدوات القتل. يبذل الاحتلال كل جهد لكتم صوت الحقيقة.
مثّلَ تغير المناخ الخطر الأكبر المهدد لأمن المياه حول العالم وخصوصاً في منطقتنا العربية، جنباً إلى الحروب والدمار، ولكن الحقيقة أن المياه، وهي حق من حقوق الإنسان؛ تستخدم كسلاح قاتل، يستغله ويسرقه المستعمرون في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في فلسطين ومنذ وقت طويل، وذلك لحرمان الشعوب المحتلة من حقوقهم، وتعطيشهم، والتأثير على صحتهم وقتلهم، وفي النهاية إجبارهم على النزوح عن أوطانهم بحثاً عن المياه وبحثاً عن الحياة. إن التحكم في وتلويث المياه سلاح فعال، عرف المستعمرون تأثيره واستخدموه بالفعل، ولا يحاولون حتى إخفاءه بأية مسميات.
بينما يمثل تغير المناخ وهو الناتج عن الاستخدام الجائر لقلة من البشر للطبيعة ومواردها، سبباً رئيساً لتغير مواعيد وكميات مياه الأمطار وغيرها من العوامل المناخية الهامة، وهذا التغير بؤثر على صحة التربة والهواء وما يصاحبه من انعكاسات على الإنسان. لكن السيطرة على موارد المياه وحرمان أصحابها من استخدامها أو الوصول إليها أو حتى اعطاءهم الفرصة لسوء ادارتها، يجعلنا ندرك أن تأثير الاحتلالات والسيطرة على الموارد يضعف قدرة صمود الموارد والطبيعة والإنسان أمام تبعات التغير المناخي. نستطيع التمييز أن السبب وراء نقص المياه لأسباب مناخية وعسكرية مجتمعة، لهو أمر كارثي يستغله المحتلون الدارسون لجغرافيات المكان والسياسة.
في فلسطين؛ ومنذ عشرة أشهر، يُقتل ويمرض الفلسطينيون في قطاع غزة بسبب العطش والأمراض المنقولة نتيجة المياه الملوثة؛ إن وجدت، وهي أداة حرب معلنة بقطع المياه وتدمير البنى التحتية وتلويث المياه بالمواد والأسلحة الخطرة، والتي تستخدم ضد الفلسطينين كجزء من الأفعال اللاإنسانية المروعة التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي بتنفيذه الإبادة الجماعية في فلسطين المحتلة. ومنذ التهجير والاحتلال واظب الاحتلال على استغلال مياه قطاع غزة الجوفية لرفاه مستوطنيه وزراعاته، ملوثاً مياه القطاع ومسبباً لملوحتها وما تبعه من إسقاط متفجرات ومواد خطرة على مدار خمس حروب سابقة، وحصار كامل وإغلاق للحواجز والمعابر، والتي لم تترك للمواطنين إلا مساحات أرض محدودة لاستخدامها للزراعة والبناء وبقايا من المياه الجوفية التي ما زاد تلوثها إلا نتيجة الضغوط لإبقاء أبسط متطلبات الحياة على هذه الأرض.
أما في الضفة الغربية، فيتعرض الفلسطينيون للتعطيش أيضاً، بشكل ممنهج ومستمر منذ احتلال الضفة الغربية، ويمنعون من الوصول أو التحكم بمصادر المياه الفلسطينية، ومنذ اتفاقية السلام الميتة والتي لم تعترف إلا بجزء لا يذكر من حقوق الفلسطيني المائية، وتركت التفاوض على الماء كما القدس للمفاوضات النهائية، والتي لم يدرك الفلسطيني بوثوقه بالمحتل حينها أنها لن تحصل. وبديلاً عن المطالبة الحقوق؛ دُفع الفلسطيني إلى ترشيد الاستهلاك لمياه غير متوفرة، وما توفر منها لا يكفي، وفرض على الفلسطيني شراء المياه من الاحتلال، والذي يتغول كل صيف بتقليل كميات المياه الموردة (المشتراة).
وعندما تم تعديل جزئية المياه في الاتفاقية عام 2018 لم يذكر أي تعديل على كميات المياه الفلسطينية المسترجعة، إنما أضاف شروط جديدة على الفلسطينين. كما يُحرمُ الفلسطينيون الخاضعون للسيطرة الإسرائيلية في المنطقة (ج) من الضفة الغربية من موارد المياه أو الوصول إليها، ولا يُسمح لهم حتى بجمع مياه الأمطار وتدمر أي سبل لجمع المياه بشكل دوري بهدف ترحيلهم. وبشكل أقل ظهوراً، يتعرض الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي كمواطنين للتمييز عندما يتعلق الأمر بتوفر خدمة المياه وجودتها! ولا ننسى المتضررين من إخوتنا العرب نتيجة سرقة المياه “المشتركة” بمسماها العلمي والقانوني، والذي استغله الاحتلال لتخضير الصحراء وإخفاء الطبيعة الأصيلة وحولها “لواحة معرفية وتكنولوجية” تحج إليها الشركات العالمية، وأيضا باحثي مجال المياه؛ يدرسون إبداع الاحتلال بإخفاء معالم الطبيعة من أجل تنمية خضراء بما يدرج تحت مسميات “الغسيل الأخضر”.
اقرأ أيضا| الضحك على رمز البراءة في غزة
وبمقابل ما يحرم منه الفلسطيني، تُعطى مصادر المياه وكميات لا محدودة للمستوطنين المسعورين في أنحاء الضفة الغربية وأنحاء فلسطين، والذين يستولون على المزيد من موارد الأرض والطبيعة ومنها المياه، ويهاجمون الفلسطينيين الذين يحاولون استخدام هذه الموارد، ويسرفون باستخدامها وتلويثها قدر ما يستطيعون من أجل إحداث ضرر دائم لما بقي من موارد الأرض ولمن بقي من أهل الأرض حياً صامداً على أرضه، ومقابلها في الأرض المحتلة؛ يظهرون الحرص على ديمومة المصادر المسروقة والحفاظ عليها واختيار تكنولوجيات خضراء كما ذكرنا أعلاه ضمن مزيج من الغسيل الأخضر المنتهك لأبسط حقوق الإنسان (بتصرف).
ومن أنحاء العالم نقرأ التقارير الدولية عن ملايين اللاجئين والتي أدمجت تأثير المناخ واللجوء كسبب رئيسي للهجرة رغما أن احتلال الأرض والاستيلاء على الموارد هو أساس بدء عمليات التطهير العرقي، والتي تجبر البشر على الفرار من أوطانهم بحثاً عن المأوى والمياه لبقاء أسرهم على قيد الحياة. ونقرأ أيضاً عن إجهاد النظم المائية المجتمعات المتلقية لهؤلاء اللاجئين وعدم قدرتها على توفير كميات المياه اللازمة والتأثير على ديمومة هذه المصادر مسبباً تضعضع الأمن المائي فيها وضعف اقتصادها وتأثر عافية اللاجئين.
من المستفيد من كل ذلك؟! من يعمل على ضعضعة العالم بإغلاق صنبور المياه، أساس أساس الحياة.
إن ما ورد أعلاه جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية على أقل تقدير، حيث تتعمد القوة المحتلة سرقة الموارد واستخدامها ضد الفلسطينيين منذ أمد بعيد، لقتلهم البطيء ودفعهم إلى الرحيل. وعلى الرغم من المعرفة بالحقوق والانتهاكات إلا أن الجموع بما في ذلك الحكومة الفلسطينية والمانحون وحتى الأكاديميا اعتادوا على تأطير ما ورد أعلاه باعتباره تأثيراً مناخياً وسوء إدارة من الجانب الفلسطيني (وهو ما لا نتجاهله)، ولكنه ليس السبب الجذري الحقيقي، لكن اجتماع الصمت والتغير المناخي أراح المحتل من واجباته تجاه توفير أساسيات الحياة للشعب المحتل، وزاد تأثيره على صحة وبقاء من يقبع تحت براثن الاحتلال، وألغى الصمت واجب المطالبة بالحق لدى شعبنا المحتل.
مذهل كيف لهذا العالم أن يستمر ويناقش المياه والحقوق كما أنها بحث علمي كأنما لم تغير هذه الإبادة وجهة العالم وذكرت بكل مآسيهم، وحتى إن تم نقاش موضوع غزة في المحافل الدولية كما في أسبوع المياه العالمي، فلن يخرج عن إطار العلوم والسردية الموازية بين الضحية والجلاد والداعية إلى السلام المائي، كأنما ما ذكر أعلاه ليس نتيجة السلام المائي.
ما يمر به أهلنا في قطاع غزة هو المرّ بعينه، قتل وترهيب وتجويع وقهر،والماء باستخدامه أحد أدوات القتل. يبذل الاحتلال كل جهد لكتم صوت الحقيقة، وهنا ندرك الحاجة لتغيير ملامح سردنا لحقيقة الوضع بما لا تشوبها من مخاجلات لتحميل الاحتلال مسؤولية قتلنا وترحيلنا وسرقة مواردنا. وندرك أنّا من يقبع تحت الإحتلال، وطالما ما زلنا نملك الصوت، علينا أن نكون من الادراك ألا نقلل من حجم الجريمة وقوة كلمة الحق، وأن ندرك أن اللغة يجب أن تكون لفلسطين وصوتاً لنا وإظهار حقنا.
تعليق واحد