حسن نصرالله “كان يعلم” أن إيران لن تأخذ بثأره
الآن إيران تجد نفسها أمام مشكلة هالة القدسية لنصرالله وكيف التعامل مع تصفيتها. لا نحتاج إلى دليل لإدراك خطورة الهالة أكثر من موقف المرجعية في النجف المدركة لمخاطر صناعة هالة القدسية ونتائج تكسيرها على يد إسرائيل
استبق الكثير من اللبنانيين من أنصار حزب الله اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله بتوجيههم اللوم لإيران بأنها تركتهم من دون أن تتدخل أمام الهجمات الإسرائيلية المختلفة. فهم هؤلاء أن اللافعل الإيراني الذي ارتبط باغتيال القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر في بيروت ورئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في طهران، إنما يفتح الشهية الإسرائيلية للذهاب إلى تصعيد أكبر للمواجهة. أدرك العقلاء من اللبنانيين وأهل الشرق الأوسط، أن التفسير الساذج الذي ردده بعض من أشباه المحللين على الفضائيات العربية عن الهدوء الإسرائيلي على جبهة غزة، ليس تعبا أو إحساسا بالاستنزاف، بل كان استعدادا لمرحلة جديدة من الصراع في ساحة العمليات في شمال إسرائيل، أي في لبنان. مارس الإسرائيليون تمويها بافتعال مصادمات ومداهمات في الضفة الغربية، في حين كانوا يجهزون أنفسهم للحرب الحقيقية مع حزب الله. ولعل من الصعب معرفة متى وضع الموساد خطة تفخيخ البيجر وأجهزة الووكي توكي، التي من الواضح أنها تمت قبل أشهر، إلا أن الرشقة الأولى في جولة الحرب الجارية الآن كانت تفجير هذه الأجهزة وإرباك أعضاء الحزب من سياسيين وحركيين ومقاتلين، ما مهد لضربات قاسية لمفاصل قيادة الحزب، وصولا إلى اغتيال نصرالله. اللبنانيون المتشككون الآن في إيران يعتقدون أنهم كانوا ضحية لصفقة سياسية بين طهران وواشنطن. الصمت الإيراني كان، إن جاز التعبير، يصم الآذان.
اليوم، لا يوجد إجراء ثأري أو رد يعادل الضربة التي تلقاها حزب الله بقتل قائده. حتى لو أقدمت إيران على أي نوع من الرد، مهما كان حجمه عسكريا، وعلى افتراض نجاحه في اختراق الدفاعات الإسرائيلية المحكمة ضد الصواريخ والمسيرات، فإنه لن يقدم ما يريح أنصار الحزب وبيئة التعاطف مع إيران في المنطقة، أو يشفي غليلهم. خسارة الحلف الإيراني لحسن نصرالله لا يمكن تعويضها. وإذا كانت إيران تقول إن مقتل نصرالله سيزيد الحزب قوة وإن غيره سيعوضه، فهي أول من يدرك أنها أول من يكذب على نفسه. بل حتى لو أقدم حزب الله أو أي ذراع من أذرع إيران الإقليمية أو إيران نفسها على التقاط هدف رئيسي في تراتبية القيادة الإسرائيلية، مهما كان رفيعا وصولا إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه، فإنه لن يكون بمستوى الخسارة الإستراتيجية لحسن نصرالله.
إيران ورطت نفسها مبكرا في صناعة هالة القداسة لحسن نصرالله. كان مهمّا لها صعود شخصية عربية بعمامة سوداء تتحدث بالنيابة عن إيران إلى العالم الذي تستهدفه طهران بمشروعها منذ عام 1979، أي عام الثورة الإيرانية ووصول آية الله الخميني إلى الحكم. وللمفارقة، فإن إيران وحزب الله يدينان بالفضل لإسرائيل في توفير الفرصة الذهبية لتأسيس الحزب في لبنان عندما أقدمت إسرائيل على اجتياحه عام 1982 وتدمير بنية منظمة التحرير الفلسطينية وترحيلها من لبنان، ما ترك فراغا سرعان ما ملأه الحرس الثوري بصنيعته التي أسماها حزب الله. وفيما كانت حركة أمل تناور بتقديم وضعها الطائفي كهوية، فإن حزب الله لم يتردد يوما في إعلان ولائه لإيران وللخميني ولاحقا للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. ومرة أخرى قدمت إسرائيل خدمة لحزب الله عندما اغتالت الأمين العام للحزب عباس الموسوي عام 1992، ليتولى حسن نصرالله قيادة الحزب ويصل به إلى ما وصل إليه من إنجازات أهمها تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 ومن ثم طرد ميليشيا جيش لبنان الجنوبي الموالية للإسرائيليين. لا شك أنه لا يمكن إنكار أهمية ما قدمه نظام الرئيس السوري حافظ الأسد من فرص خلال احتلاله لبنان تحت مسمى قوات الردع العربية، إذ استطاع قلب واقع الطائفة الشيعية من فئة مواطنين من الدرجة الثالثة، يتقدمهم الموارنة والسنة، لتصبح الطائفة، من خلال حزب الله، سيدة البلاد الجديدة.
إقرأ أيضا : نيويورك وإعلان الحرب واغتيال نصر الله
النصر الذي حققه حزب الله على إسرائيل جعل من نصرالله أيقونة عربية وإسلامية على الرغم من رمزيته الطائفية. ولم يتردد الحزب في تسخير القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل للوصول إلى غايته الأهم، التي هي غاية إيرانية، بالهيمنة على لبنان كمقدمة للهيمنة على المنطقة. ثم جاء غزو العراق عام 2003 لتوفير فرص أكبر. لكن مع الفرص كثرت أخطاء حزب الله، ابتداء من اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005 ومرورا بحرب عام 2006 مع إسرائيل بسبب اختطاف جنود إسرائيليين (ندم على ذلك نصرالله وقال “لو كنت أعلم”) ثم الإمعان في خنق الدولة اللبنانية واجتياحها لتصفية كل عوامل التمرد عليه عام 2008، وصولا إلى ألعاب التحالفات مع التيارات والأحزاب اللبنانية وتأخير اختيار الرئيس وإفراغ سلطة الحكومة اللبنانية من كل إمكانياتها. وخلال فترة قصيرة تحول حزب الله إلى قوة ضاربة سياسيا وعسكريا في الإقليم، تتدخل لإنقاذ نظام بشار الأسد وتدرب الميليشيات الموالية في اليمن والعراق، بل وتتسلل عبر مصر لتصل إلى غزة وتسلح حماس.
الآن إيران تجد نفسها أمام مشكلة هالة القدسية لنصرالله وكيف التعامل مع تصفيتها. لا نحتاج إلى دليل لإدراك خطورة الهالة أكثر من موقف المرجعية في النجف المدركة لمخاطر صناعة هالة القدسية ونتائج تكسيرها على يد إسرائيل. كان بيان المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني في تأبينه لحسن نصرالله لافتا في إشارته إلى مرحلية الأهمية الكبيرة للأمين العام لحزب الله مقارنة مع سير كبار أئمة الشيعة. قال السيستاني “حسن نصرالله كان أنموذجا قياديّا قلّ نظيره” ثم أتبع ذلك بإشارة تمنع نصرالله من أن يصبح عابرا للأزمنة بالقول “في العقود الأخيرة”. لا شك أن المرجعيات الكبيرة قد سمعت ما يردده بعض شيعة لبنان وغير لبنان عن وضع نصرالله في مرتبة تتقدم على الكثير من كبار رجال الدين الشيعة، الأحياء منهم والأموات. يجب أن يعود حسن نصرالله إلى مكانة “الشهيد” و“البطل”، يحزن الشيعة عليه مثلما حزنوا على قاسم سليماني، ثم يلتفتون إلى مشروعهم.
لو ترك حسن نصرالله ليصير “قديسا”، يصبح من الصعب عدم الانتقام أو الثأر له. مشكلة الرد أو الانتقام انطلقت بوجود نصرالله على قيد الحياة عندما أدرك، وأدرك معه كبار قادة الحرس الثوري الإيراني، أن الفارق التكنولوجي بين التجهيزات العسكرية الإيرانية والإسرائيلية هائل. كان ثمة انطباع بأن لدى الإيرانيين (ومعهم حزب الله) قدرات كبيرة في استهداف الإسرائيليين. لكن الصدمة جاءت بعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال الجنرال في الحرس محمد رضا زاهدي، والرد الإيراني الذي تمثل في إطلاق أكثر من 300 صاروخ بالستي وصاروخ كروز ومسيّرة، لم يتمكن أي منها من تحقيق إصابة واحدة في إسرائيل. تم إسقاط كل هذه الصواريخ والمسيرات بصواريخ مضادة من القبة الحديدية ومنظومة مقلاع داوود الإسرائيلية وبواسطة الطائرات الإسرائيلية والأميركية. كان مشهد خامنئي وهو يتحدث إلى قادة الحرس الثوري المكسوري الخاطر بعد فشل الهجوم هو النقطة التي حسمت منع الرد الإيراني على سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية بدءا من فؤاد شكر وإسماعيل هنية، مرورا بإبراهيم عقيل. إذا استرجعنا كلمة حسن نصرالله الأخيرة، التي أعقبت تفجيرات البيجر والووكي توكي، تتضح لنا بيسر مظاهر العجز عن تقديم الوعد بالرد، على الأقل الوعد العملي وليس السياسي. نصرالله الإستراتيجي الذكي بلا شك كان يعرف، دون أن يفصح، أن وقت ردع إسرائيل قد فات وأنها لو استهدفته يصبح من الصعب الأخذ بثأره. في عام 2006 قال نصرالله “لو كنت أعلم”. في عام 2024 كان يعلم أن طهران لا تريد أو لا تقدر على الثأر له.
يلوم اللبنانيون من محبي حسن نصرالله إيران لأنها تركت إسرائيل تقتله عندما لم تسارع إلى ردعها من أول استهداف خطير تمثل في اغتيال فؤاد شكر. لكن ما يستحق اللوم هو عموم الموقف، انطلاقا من مغامرة حماس بإطلاق عملية “طوفان الأقصى”، ومجاراتها من قبل إيران وحلف الميليشيات في لبنان والعراق واليمن. كانت إيران قد وصلت إلى ذروة نجاحاتها بفرض الهيمنة على المنطقة، مع تقبل إسرائيلي لهذه الهيمنة طالما لا يتم تهديد أمن إسرائيل. وهو ما شهدناه طوال فترة الربيع العربي عندما انكمشت إسرائيل لتنأى بنفسها حتى عن الحرب الأهلية السورية التي تدور على بعد خطوات منها، بل وتركت حماس تنفس بين الحين والآخر بإطلاق صواريخها من غزة لتعود إسرائيل وتسمح للأموال القطرية بالمرور لدفع رواتب مقاتلي حماس. إيران اليوم لا تريد أن ترد لأن أي رد لن يكون رادعا لإسرائيل، وقد يجرها إلى مواجهة معها تكلفها المزيد من الخسائر الإقليمية في العراق واليمن وسوريا (صمت الأسد ونأيه ببلده عن المواجهة هما بالأساس خسارة). بل إن إيران تتخوف من أن يرد الإسرائيليون أو الغرب باستهدافات لمنشآت وقوات على أرضها.
سيبكي لبنانيون وغير لبنانيين كثيرا على حسن نصرالله، لكن من الصعب تصور أن طالبي ثأره سيجدون عند الإيرانيين ردا.