حزب الله.. والعُزلة اللبنانية
بات كثير من اللبنانيّين يتعاطون مع "حزب الله" على أنّه قد خسر فعلًا هذه الحرب التي لم يكن لها أيّ ضرورة وطنية، فهو بعدما كان صاحب اليد العليا بات الأضعف في المعادلة.
يشعر “حزب الله” عن حق بأنّه في حربه مع إسرائيل يعيش نوعًا من العزلة اللبنانيّة، حتى “حركة أمل” التي يشكل معها ما يُسمّى ب”الثنائية الشيعية”، على الرغم من اعتبار نفسها حزءًا لا يتجزّأ من هذه الحرب، لا تتقاسم معه الأهداف والشعارات، فهو إذ يضع كلّ ما يقدّمه على “مذبح غزّة” الذي لا يحتاج الى “قرابين” بل الى “دعم”، تجدها تحصر ما تبذله بلبنان عمومًا وجنوبه خصوصًا.
وقد عبّر نائب الأمين العام ل”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم،أمس الإثنين، عن هذا الشعور بشيء من المرارة، فقال: “أقل الوفاء من شركائنا في الوطن أن يقدِّروا ويحترموا ما نقوم به، هذا أقل الوفاء. أنا اليوم لن أكون مدافعاً عن العمل الذي نقوم به، لكن هذا شرف، مفروض ممن لا يشاركنا ومن لا يقوم بهذا العمل معنا أن يدافع عن نفسه، لماذا يجلس جانباً ويتفرج علينا وهو معني؟”.
وشعور الشيخ قاسم صحيح، ف”الشركاء في الوطن” الذين يرفضون هذه المواجهة المكلفة بشريًّا واقتصاديًّا وماليًّا يتزايدون، وقد انضمّ إليهم “التيّار الوطني الحر” بشكل واضح، في الأيّام القليلة الماضية.
وثمّة من يجزم بأنّ الدائرة الثانية في البيئة الشيعية، أي تلك التي لا تنتمي الى “حزب الله”، ترفض هذه الحرب، وهي إذ تجد نفسها في حرج التعبير عن معارضتها، تكتفي بالصمت هنا وبرفع شعارات معاكسة للشعارات التي يرفعها الحزب، هناك.
ولم يسبق ل”حزب الله” أن شعر بهذه العزلة، في أيّ مواجهات سابقة مع إسرائيل التي يوافق كثيرون على اعتبارها العدو.
لماذا؟
ثمّة قناعة تامة في لبنان بأنّ “حزب الله” لم ينضم في الثامن من تشرين الأوّل ( اكتوبر) الماضي الى حرب “طوفان الأقصى” دفاعًا عن الذات أو عن “بلاد الأرز”، أي في حدود وظيفته ك “مقاومة”، بل هو حوّل الجنوب اللبناني إلى جبهة في إطار “وحدة الساحات”.
و”وحدة الساحات” ليست منتجًا لبنانيًّا أو فلسطينيًّا، بل منتج إيراني صاف هندسه “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”.
وثمّة قناعة راسخة لدى الكثيرين بأنّ “حزب الله” يدوزن المواجهات على إيقاع “الصبر الإستراتيجي”، وهو مصطلح إيراني أيضًا.
والأهم من ذلك أنّ هذا الحزب يبدي أهميّة قصوى لما يلحقه من أذيّة بالعدو الإسرائيلي، من دون أن يُعير انتباهًا الى الكوارث التي تصيب المجتمع اللبناني، عمومًا والبنية الجنوبيّة، خصوصًا، فالنازحون عن بلداتهم وقراهم تجاوزوا عدد الإسرائيليين النازحين من الشمال الذين يحظون، على عكس الجنوبيّين تمامًا، برعاية كبيرة سواء على مستوى المساكن( فنادق وشقق مفروشة) أو على مستوى الدعم ( رواتب وتعويضات).
ولا يقتصر الأمر على ذلك، ف”حزب الله” أعجز من أن يحمي حتى مقاتليه الذين تكاد أعداد الشهداء بينهم توازي أعداد قتلى الجيش الإسرائيلي في غزة نفسها، حيث تدور معارك عنيفة ولصيقة في ظل تعقيدات مدينية معروفة. وغالبية شهداء هذا الحزب لا يسقطون في مواقع قتاليّة بل يتم استهدافهم في المنازل، حيث يسقط معهم أطفال ونساء.
ويصيب نوع من الإحباط جميع اللبنانيّين، فهم باتوا يشككون في أن تضع الحرب عليهم أوزارها متى انتهت الحرب في غزة، بل يرتابون في أن تكبر الحرب عليهم بمجرّد أن تهدأ في غزة.
ولا تصدّق غالبية اللبنانيّين خطباء “حزب الله” بأنّ فتح الجبهة اللبنانيّة فيها مصلحة “وقائية” للبنان، إذ إنّ هؤلاء باتوا يتلمّسون أنّ الأدوار التي يأخذها هذا الحزب على عاتقه بدأت تشكل خطرًا عليهم، فهو لا يراعي استقرار اللبنانيين ومصالحهم بل وظيفته كجزء لا يتجزّأ من “جبهة المقاومة”، وبالتالي بات ضعف لبنان يتمثل في قوة “حزب الله”.
ولا يجد اللبنانيّون في المساعي الدبلوماسيّة الدوليّة، في ضوء الأيّام الطويلة من المواجهات، أنّ هناك من يتعاطى برهبة مع “حزب الله” الذي يعترف على أعلى مستوياته بأنّ كل ما يقدمه الوسطاء الدوليّون لا يراعي سوى مصلحة إسرائيل، وهذا يفيد بأنّ كل الكلام الذي يمتدح به الحزب نفسه ودوره وقوته لا يمكن صرفه دبلوماسيًّا.
وبات كثير من اللبنانيّين يتعاطون مع “حزب الله” على أنّه قد خسر فعلًا هذه الحرب التي لم يكن لها أيّ ضرورة وطنية، فهو بعدما كان صاحب اليد العليا بات الأضعف في المعادلة. في الأسابيع الأولى من حرب “طوفان الأقصى” كان الجميع في مراكز صنع القرار يخشون من أن يقدم “حزب الله” على توسيع الحرب، ولكن سرعان ما انتقلت المبادرة الى يد إسرائيل، إذ بات أصدقاء لبنان، بمن فيهم من يصنفهم “حزب الله” أعداء، يتدخلون لدى الحكومة الإسرائيليّة حتى لا تشن حربًا واسعة على لبنان، وفق ما فعلته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ولا تزال.
ولا يمكن في قراءة الأسباب التي تجعل “حزب الله” يشعر بنوع من “العزلة” التغاضي عن أنّه وضع التضحيات اللبنانيّة التي يدفعها الجنوبيون مباشرة وسائر اللبنانيين بصورة غير مباشرة، في خدمة خطاب غريب عن كثير منهم، إذ اعتمد ما يملي عليه انتماؤه الى “مذهب الولي الفقيه”، فهو فيما يقدم نفسه مقاومة يظهر أنّه في الحقيقة “مقاومة إسلامية” ليس لبنانية إنّما “في لبنان”، أي أنّ مسرح عملياتها هو لبنان وليس مرجع انتمائها.
وهذه الأدبيات أعادت تذكير اللبنانيّين بأقوال قديمة للأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله حين أعلن أنّ الهدف الذي ينشده “ليس أن يكون لبنان جمهورية إسلامية واحدة إنّما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق، الولي الفقيه الإمام الخميني”.
وبناء على كل ذلك، فإن جميع من كانوا في الأيّام الأولى من انضمام “حزب الله” الى الحرب يتعاطون بحذر كبير من إمكان أن تنتهي المواجهات بسرعة ويخرج المشاركون فيها منتصرين، أصبحوا شبه متيقنين من أنّ العكس هو الصحيح.
ولم يسبق أن سلّف “حزب الله” اللبنانيّين، أقلّه منذ العام 2006 حتى بدء حرب “طوفان الأقصى” ما يقوّي المنعة الوطنية، فهو نفض يده من تعهداته على طاولة الحوار الوطني، ورفض كل بحث في استراتيجية دفاعية، ووقف ضد القرارات الدولية، وعادى العدالة الدولية ( استشهاد رفيق الحريري) والوطنية ( انفجار مرفأ بيروت) وواجه “بالزعران” المجتمع المدني (ثورة 17 تشرين الأول/ اكتوبر) 2019، وانقلب على الديموقراطية ( منع انتخاب رئيس الجمهورية من أجل فرض مرشحه فرضًا) ، والحبل على ..الجرّار.
أن يتخذ من يسميهم الشيخ نعيم قاسم “شركاؤنا في الوطن” الموقف الذي يشكو منه، لا يُسأل عنه هؤلاء إنّما “حزب الله” الذي عليه، ولو لمرّة واحدة، أن يتجرّأ ويسائل نفسه.