لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عن التفجير الذي نُفّذ الإثنين، ضد القنصلية الإيرانية في دمشق. نتج التفجير من “غارة جوية”، وفق ما تتناقله وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية، وبالتالي فإن أداة الفعل تدل إلى الفاعل. يبقى هنا السؤال، وهو إيراني، عما إذا كانت طائرات أميركية كانت ضالعة في الحدث على منوال ما حدث في 3 كانون الثاني (يناير) 2020 حين فجرت مسيّرات واشنطن موكباً بالقرب من مطار بغداد، فاغتالت شخصية كبرى بحجم الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني.
تملك إيران كل الدوافع لردّ يفترض أن يكون “مزلزلاً” على اعتداء إسرائيلي موصوف على “أراض إيرانية”. هكذا يتعامل القانون الدولي (وفق اتفاقية فيينا لعام 1961) مع حرم المنشآت الدبلوماسية لأي دولة، سواء كانت سفارة أم قنصلية أم منزل السفير. وملكت إيران قبل ذلك، ومنذ أشهر إذا لم نقل قبل سنوات، كل الذرائع لتوجيه ضربات نوعية رداً على ضربات موجعة وجهتها إسرائيل مستهدفة قيادات إيرانية في سوريا وقبل ذلك في إيران نفسها، ولكنها لم تفعل. وحتى حين بات الاستفزاز والاستدراج مخجلين ومحرجين، راحت طهران إلى حدّ إقناع الفصائل التابعة في المنطقة بفتوى المرشد علي خامنئي ودعوته إلى “الصبر الاستراتيجي”. استدعى ذلك إسكات “جبهة العراق” وضبط “جبهة لبنان” والطلب من حزبها بلع الموسى وربما “تجرّع السمّ” الذي سبق لمؤسّس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني تجرعه، وتلك فتوى أخرى.
خسرت إيران معركتها وحربها المزعومة ضد إسرائيل. في ذلك أنها لم تخض يوماً تلك الحرب فيما خاضتها “الشياطين”، الكبرى والصغرى، ضدها من دون حرج. بدا في طهران أن في الأمر حصافة وكثيراً من الحذاقة باستخدام بلدان الآخرين وشعوبهم حطباً لآليات الدفاع عن نظام الوليّ الفقيه. وسواء رفعت الرايات عناوين التشيّع أم شعارات “ضرب الاستكبار” أم الوعد بإغراق إسرائيل في البحر، فإن العدّة حاضرة للذود عن “نظام الثورة”. يجري الأمر بناءً على ولاء مكتمل الأوصاف يستورد المال والسلاح والعقيدة لإنتاج جنود في خدمة الوليّ الفقيه. هكذا تماماً سبق لزعيم “حزب الله” في لبنان أن أنار معارفنا.
فقدت طهران تمارين الذكاء. واجهت العالم أجمع ملوِّحة بما تملكه من عناصر القوة. حتى أن واشنطن (في عهد باراك أوباما) والعواصم الحليفة “زحفت” تتوسّل اتفاقاً (أبرمته عام 2015) يلجم إيران عن الإفراج عن مخالب نووية. في بعض التقارير ما كان يتخوّف من عملاق يترعرع في قلب الشرق الأوسط وجبت مجاراته لا الصدام معه. لم يخض جيش الولي الفقيه معركة منذ هزيمة “تجرع السم” مع العراق، لكن طهران برعت في إرهاب العالم بالتحرّش بالأصالة وتهديد أمن المنطقة وممرات العالم بالأصالة والوكالة. وفيما راكمت خلال السنوات الماضية أوراق القوة على طاولات التفاوض في فيينا وغيرها، بدت هذه الأيام تخسر أوراقها، واحدة تلو أخرى، وبدا أن الخسارة الكلية هي مسألة وقت فقط.
تأتي الغارة “الإسرائيلية” على قنصلية إيران في دمشق من داخل سياق متدرّج هدفه النهائي إخراج إيران من سوريا. والسياق قديم نشهد واجهاته النافرة هذه الأيام. لم تتدخل روسيا في سوريا في 30 أيلول (سبتمبر) 2015 إلا بعد اتفاق الزعيم الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على شروط أمنية تمنح إسرائيل اليد الطولى بأن “تفعل ما تشاء متى تشاء” كلما لاحظت أخطاراً تلوح من هذا البلد. ولم يغضّ أوباما الطرف عن همّة بوتين في سوريا حين اجتمع معه في نيويورك على هامش قمة الأمم المتحدة في 28 أيلول (سبتمبر) من العام نفسه (أي قبل يومين من التدخّل)، إلا بعدما تبلّغ بالنصّ اتّفاق تل أبيب وموسكو. وفي كل مرة كانت إسرائيل تتعرّض لمصالح إيران العسكرية ومواقع ميليشياتها التابعة وعمليات نقل الأسلحة، كانت إيران تستنتج بحسرة مفاعيل اتفاق بوتين-نتنياهو.
لكن الأمور تدحرجت بعد عملية “طوفان الأقصى”. صحيح أن واشنطن سارعت إلى تبرئة إيران من هذا “الإثم”، وصحيح أن قيادات إيران، بمن فيها المرشد شخصياً، نأت بإيران عن عملية “القسام”، لكن إسرائيل اعتبرت أن “طوفان” غزّة هو نتاج طوفان تمارسه إيران في فلسطين، في القطاع خصوصاً، وفي أرجاء محيطة بإسرائيل، أهمها في سوريا ولبنان. ولئن استفادت إسرائيل بإفراط من لحظة انفعالية ساقت تضامناً غربياً هستيرياً، فإنها وجدت في الحدث مناسبة لتصفية كل الحسابات وإزالة كل الأخطار التي تهددت وستهدد أمنها الاستراتيجي. وكان واضحاً أن ضرباتها المدمّرة ضد إيران في سوريا وحزبها في لبنان تستدرج حرباً كبرى وصداماً شاملاً.
أظهرت الولايات المتحدة وعواصم أوروبية عدة حرصاً على عدم توسّع الحرب صوب لبنان. لكنها لم تعبّر عن أي قلق إذا ما توسّعت حرب إسرائيل صوب سوريا. لم يسجل أن عاصمة غربية تخوّفت مما يمكن للعبث الإسرائيلي في سوريا أن يفجّره في المنطقة. أما الأمين العام للأمم المتحدة الذي أظهر موقفاً جريئاً ضد إسرائيل في حربها ضد غزّة، فلم “يعرب عن قلق” تجاه سلسلة العمليات الخطيرة التي نفّذتها إسرائيل أخيراً في سوريا، وما استنكاره الأخير إلا بسبب تعرّض منشأة دبلوماسية للقصف.
قضت إسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة، وتحديداً بدءاً من اغتيال القيادي الكبير في الحرس الثوري رضى موسوي في 25 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، على أعداد من كبار القادة والمستشارين الإيرانيين في سوريا. بدا أن الهدف لم يعد جيش النظام أو حتى ميليشيات إيران التابعة، بل شخصيات قيادية عسكرية وأمنية إيرانية أينما صدف وجودها فوق الأراضي السورية. سرّبت طهران تقارير عن أنها سحبت بعض قياداتها أو أعادت تموضعها هناك، بما يعني أن سوريا لم تعد ميداناً آمناً. غير أن استهداف قنصلية إيران يعني أن الوجود الإيراني السياسي أيضاً بات مستهدفاً، وأن من يستهدف قنصلية يستهدف سفارة وسفيراً.
تمارس إسرائيل تمارين تقليص النفوذ الإيراني في سوريا وربما إلى حدود صفرية، مستفيدة من غطاء غربي تقوده الولايات المتحدة. لكن تمارينها التي لقيت في السابق غضّ طرف – إذا لم نقل رعاية وتواطؤاً – من روسيا، ما زالت، رغم خلافات روسيا وإسرائيل بشأن الحرب في أوكرانيا وغزّة، تصبّ لمصلحة مصالح روسيا في سوريا. فموسكو تنظر بعين غاضبة إلى تمدد إيران على حسابها في هذا البلد. وتمضي إسرائيل في مغامرتها السورية مستفيدة من أجواء إقليمية لطالما رفضت نفوذ طهران في سوريا ودعت نظام دمشق إلى الاستقلال عنه.
لكن الأشد تحفيزاً من كل هذه البيئات الحاضنة أو المتفهّمة للورشة الإسرائيلية، أن إسرائيل مستفيدة من عاملين أساسيين: الأول، وهو مهم، ويتعلق بقدرات اختراق استخباري يكشف في سوريا خرائط دقيقة ومحدّثة لوجود إيران وحركة قياداتها. الثاني، وهو الأهم، أنها تتعامل مع خصم لا يردّ على ضرباتها ولم يفاجئ العقل الأمني الإسرائيلي يوماً بسلوك غير متوقّع. هو خصم، وإن احتدّت لهجته، يبقى صابراً من دون كلل إيماناً بوعد خامنئي الجديد في معرض التعليق على قصف القنصلية بأن “إسرائيل ستندم” على فعلتها.