حرب غزة على هامش حرب أكبر
يصرخ الفلسطينيون بأصوات مرتفعة مُنادين بإعادة اجتذاب الأنظار إلى الحرب في غزة. فمنذ قصف القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل، تكشّف الوجه الحقيقي للصراع في الشرق الأوسط: مواجهة بين اثنين من المشاريع الأساسية في المنطقة، الإيراني والإسرائيلي. وجد الفلسطينيون أنفسهم مجرد تفصيل في هذا الصراع المحتدم. أدركوا، ربما بعد فوات الأوان، أنهم مجرد بيدق حرّكته إيران في لعبتها الكبرى. ضرب مبنى صغير للقنصلية الإيرانية في سوريا وقتل حفنة صغيرة من المستشارين العسكريين يستحقان الرد عليهما بمئات المسيّرات والصواريخ. تدمير غزة بالكامل وقتل وجرح ما تجاوز 100 ألف من الفلسطينيين، وتهجير وحصار مليونين من أهالي غزة، كل ذلك لا يستحق الرد الإيراني ولو بمسيرة استعراضية واحدة.
دعونا ننظر إلى اللحظة التي سبقت عملية “طوفان الأقصى”. بلغ التمدد الإيراني الإقليمي ذروته. استقر وضع الحوثيين جنوب الجزيرة العربية ونحت السعودية إلى إرساء تعايش مع واقعها الجديد معهم. لم تتمكن الأزمة السياسية والمالية من زحزحة السيطرة شبه المطلقة لحزب الله على لبنان. السيطرة الإيرانية على العراق متعددة الأوجه، من خلال قوة عسكرية بولاء مطلق تتمثل في الميليشيات الولائية العاملة تحت مظلة رسمية اسمها الحشد الشعبي، وقوة سياسية هي الإطار التنسيقي الذي يتحكم في من يتولى السلطة التنفيذية ومن يجلس على مقعد رئيس الوزراء. نفوذ كبير على واحد من الحزبين الكرديين الرئيسيين ونفوذ مشابه على الشخصيات المهمة في الأنبار. الجيب العنيد الوحيد في أربيل يتم استهدافه بشكل دوري بمسيّرات وصواريخ، وبشكل مستمر عبر التحكم في ميزانيته وعرقلة بيعه للنفط. الميليشيات الموالية لإيران تنتشر على طول سوريا وعرضها تحت إشراف المستشارين من الحرس الثوري الإيراني، برضا وموافقة تخلو من أي احتجاج للنظام السوري المدين ببقائه للدعم الإيراني (والروسي). هذه الخارطة الجيوسياسية كانت بحاجة إلى أن يتم تثبيتها وألّا تبقى عرضة لاحتمالات التغيير. في عقلية السياسي الغربي أو الحاكم العربي، يجب أن تترسخ خارطتان جغرافيتان؛ واحدة بالحدود الدولية المعروفة، وأخرى شفافة بلون آخر تمثل منطقة النفوذ الإيراني.
أولى خطوات ترسيخ تلك الخارطة كانت الانفتاح الإيراني على المنطقة. ليس من المستغرب أن يكون تغير الموقف القطري من بقية دول الخليج قد حصل بحثّ إيراني كتمهيد وجس لنبض دول المنطقة. التحالف العربي كان ينظر بتوجس إلى قطر وإيران، لا كتهديدين متحالفين تماما، لكن كعاملين ضاغطين يوظفان الإسلام السياسي بتلويناته المختلفة لصالح مشروع عدم الاستقرار. ما إن حدثت الانفراجة الخليجية في قمة العلا، حتى تحركت مياه التقارب مع إيران. وفيما عدا البحرين، تبدو إيران بوضع سياسي هادئ مع الخليجيين، وبعلاقة متميزة مع عمان.
الخطوة الثانية كانت أزمةُ حربِ غزة. لم يكن الغرب أو إسرائيل مرتاحين للتمدد الإيراني على حساب المنطقة، لكنهما لم يفعلا الكثير لمنع مثل هذا التمدد. في الحقيقة، عمل الطيران الأميركي بما يشبه القوة الجوية للحشد الشعبي بقياداته ومستشاريه من الإيرانيين في الحرب ضد داعش. وترك الأميركيون للإيرانيين فرصة السيطرة على مناطق واسعة من سوريا. وفيما عدا الضربات الاحتجاجية الإسرائيلية التي استهدفت بعض مراكز تجمع الميليشيات الموالية لإيران ومستشاري الحرس الثوري والأسلحة القادمة من إيران، فإن الوضع في سوريا لم يتغير كثيرا على مدى سنوات. الإسرائيليون صعّدوا هجماتهم على الأهداف الإيرانية والتابعة لحزب الله في سوريا، بعد أن صار من الواضح أن إيران غيرت طبيعة تواجدها وتسليحها في سوريا. لم يعد تقليم الأظافر الذي تمارسه إسرائيل كافيا، وانتقلنا إلى توسيع الاستهداف وصولا إلى ما يعد محرما دبلوماسيا على الأقل، أي ضرب السفارات والقنصليات. لكن ما فات الغرب والإسرائيليين ودول المنطقة، أن الضربة الإيرانية المقابلة، مهما كان مستوى فشلها العسكري، فتحت الباب لدعوات التهدئة، أي القبول بالوضع الراهن من نفوذ إيراني ومن سيطرة وانتشار. هذا المطب الإستراتيجي تعثرت به حتى الولايات المتحدة عندما نأت بنفسها عن التدخل في أيّ ضربة إسرائيلية مضادة للرد على الرد الإيراني، وصارت تتحدث عن التهدئة. ماذا يضير إيران إن كان الآخرون يدعون إلى التهدئة بينها وبين إسرائيل، فيما تمارس طهران بسط سيطرتها السياسية والأيديولوجية في خارطتها الجديدة للشرق الأوسط. خارطة معترف بها الآن من جميع الأطراف.
الهدوء النسبي في ردود فعل الخليجيين على حرب غزة -فيما عدا قطر من خلال الجزيرة- يفسر إلى حد كبير استقراءً مبكرا للمرحلة القادمة من الصراع، أي المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية. حتى قطر، التي تحمست لدور الوسيط لاعتبارات الإيحاء بأنها لم تستضف قيادة حماس في الدوحة ولم تمول سلطتها في غزة، إلا لتتمكن من توجيهها وقت الضرورة، أدركت أن من يتحكم في حماس الآن هو إيران. الضغوط الأميركية على قطر وانتقادات الإسرائيليين لدورها، سواء كوسيط حالي ومحرض مستمر من خلال إعلامها وممول في العلن والسرّ لمشروع حماس، هي الدافع إلى إعلان الدوحة تملصها من دورها في المفاوضات. لا يمكن تكرار لعبة استضافة زعماء طالبان وتوفير مركز تفاوض بينهم وبين الأميركيين في الحالة الفلسطينية. هناك لاعبون كثيرون، وكل منهم مستعد لإفساد اللعبة.
هذا أوصلنا إلى مرحلة جديدة من الأزمة. المكالمات الهاتفية بين قادة المنطقة، وخصوصا قادة الإمارات وقطر والسعودية، والزيارات رفيعة المستوى التي يقوم بها كبار مستشاري الأمن القومي إلى دول الخليج، تؤكد أن المنطقة دخلت هذه المرحلة وأن من الضروري التهيؤ لها. وفيما عدا قطر، التي أمنت نفسها دعائيا مع الفلسطينيين، فإن الأطراف الأخرى في محل اللوم مهما فعلت. لم يتمكن أحد من تحجيم الاندفاع الإسرائيلي إلى الانتقام، ولا حتى الولايات المتحدة أو السمعة السيئة التي أصبحت مرافقة لكل ما هو إسرائيلي حول العالم. هذا بلد راهن على تقديم نفسه كقوة إنسانية نالت حصتها من العذاب، صار يتصرف بمنتهى الوحشية. الدول العربية ملامة لأنها لم توقف العدوان الإسرائيلي. وعلى هذه الدول عموما، ودول الخليج منها بوجه خاص، تدبير مواقفها من حشد التناقضات فيما يريده الفلسطينيون. إيران لا تحارب بالنيابة عن الفلسطينيين، لكنها اليوم تقدم كبطلة. وجود رئيس الموساد في الدوحة للتواصل مع قادة حماس عبر القطريين صار يعد مسموحا به، ولكن ممنوع التطبيع بين أي دولة وإسرائيل.
يدرك الزعماء الخليجيون أن الموقف من إيران هو هدنة مؤقتة ترسّم أثناءها إيران حدودها الجديدة. لن تتردد طهران في العودة إلى عدوانيتها، بل هي لم تتخل عنها بالأساس، خصوصا كما شهدنا في تعاملها مع الأردن كساحة في صراعها مع إسرائيل. ممنوع على الأردن الاعتراض السياسي، أو أن يتصرف بمسؤولية سيادية لمنع مرور المسيرات والصواريخ عبر أراضيه، بل اتهمه الإيرانيون والفلسطينيون بأنه يمارس دوره في حماية إسرائيل. ولولا التواجد الأميركي المكثف في أجواء العراق وسوريا والأردن، لكان للحشد الشعبي والميليشيات الإيرانية الأخرى قول آخر فيما يمكن إنزاله بالأردن من انتقام.
أما وقد رسمت إيران نسختها من خارطة النفوذ، وتصرفت بما تمليه عليها مصالحها وبما يضمن لها مكانتها الإقليمية بعيدا عن حرب غزة وتركت الفلسطينيين وحدهم في مواجهة الانتقام الإسرائيلي، فإن للخليج أيضا الحق في أن ينظر إلى وضعه الأمني بعيدا عن مفردات حرب غزة، وأن يرسم خارطة تضمن مصالحه. مشاهد ما يجري في غزة كارثية والدعم الإنساني، سواء أتم تقديره فلسطينيا أم لا، ضروري. لكن حرب غزة بالنسبة إلى إيران مشهد هامشي. الحرب على الخرائط في المنطقة هي همّ طهران الأول، وهي حرب بالنسبة إلى الخليج لا مجال فيها لأي غفلة.