حرب غزة تقرّب بين مصر وإيران
القاهرة تنتبه لخطر ربط مصير القضية الفلسطينية بإيران بدلا من الدول العربية إذ يمثل هذا الطريق مأزقا ويجعل إيران على مشارف حدود مصر وعندما يحدث خلاف معها قد تتحول إلى منغص.
جرت خلال الفترة الماضية اتصالات ولقاءات واجتماعات بين مصر وإيران على مستويات سياسية وأمنية متعددة، فككت الكثير من العقد التي جعلت الروابط بين البلدين أسيرة لحسابات تقليدية، ولم يحل عدم الإعلان رسميا عن عودة العلاقات الدبلوماسية حتى الآن دون الدخول في مناقشات مباشرة، والتفاهم ضمنيا حول محددات تحفظ لكل طرف مصالحه، بما يمنع حدوث مفاجآت سلبية.
مع اندلاع الحرب على قطاع غزة وتدخّل إيران فيها عبر أذرعها والموالين لها في المنطقة، زادت المحادثات بين القاهرة وطهران، لمنع انفجار المنطقة. وعقب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران نهاية يوليو الماضي، زادت الحوارات بين البلدين، وهو ما عكسته الاتصالات الهاتفية المتكررة التي أجراها وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي مع نظيره الإيراني عباس عراقجي.
لفتت زيارة وزير الخارجية المصري إلى طهران لحضور حفل تنصيب الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، قبل يوم واحد من اغتيال هنية، مدى التطور الذي شهدته العلاقات، وما يمكن أن تشهده في الفترة المقبلة، خاصة أن الأوضاع في المنطقة مزعجة للغاية، والتداعيات التي تنجم عن التشابكات الإقليمية والاستنفار الحاصل بين إيران وإسرائيل، ستكون خطيرة، ما استدعى تحركات مصرية على مسارات مختلفة، بينها مسار طهران، لنزع فتيل انفجار حذرت منه القاهرة بعد اندلاع حرب غزة.
تتحرك مصر نحو إيران في سياقات متباينة، أهمها أنها ضلع في الوساطة التي تتشارك فيها مع الولايات المتحدة وقطر لوقف إطلاق النار في غزة، وعلى دراية بتفاصيلها التي أصبحت على صلة وثيقة بطبيعة الرد التي قالت إيران إنها ستقوم به انتقاما لاغتيال إسماعيل هنية على أرضها، وتضاعف الربط بعد إشارة طهران بأن وقف إطلاق النار في القطاع يلعب دورا في رسم حدوده مع إسرائيل.
اتسع نطاق الاتصالات من القاهرة إلى طهران لإطلاعها على سير المفاوضات المتعلقة بالصفقة بين إسرائيل وحماس، ومحاولة إقناعها بضبط النفس، لأن هناك أملا للتهدئة في غزة، حيث تعلم مصر أن الرد الإيراني الموجع في قلب إسرائيل ستكون له ارتدادات عنيفة على المنطقة، لاسيما إذا جاء بمشاركة أذرع طهران في عدد من الدول العربية، ما يعني أن شبح الحرب الواسعة يلوح في الأفق.
تريد القاهرة تعزيز دورها الإقليمي من خلال تدخلاتها السياسية لتسهيل الوساطة في الصراعات بالتفاهم مع الولايات المتحدة، ومن المرجّح أن تكون اتصالات وزير الخارجية المصري بنظيره الإيراني تمت في هذا المضمار، لأن الإدارة الأميركية تمانع وصول المنطقة إلى حافة الهاوية ووقوع الانفجار.
يُسقط هذا الاستنتاج تحفظ واشنطن السابق على انفتاح القاهرة على طهران، وكان ذلك من الكوابح التي عطلت عودة العلاقات بينهما فترة طويلة، وجعلت مقاطع كبيرة من الاتصالات تتم بشكل غير معلن أو خلال اجتماعات ومؤتمرات دولية وإقليمية.
لم تعد مصر في حاجة إلى الحد من تواصلها مع إيران بعد تطور علاقات الأخيرة مع دول خليجية، لها تحفظات على أو مخاوف من أيّ انفتاح بين طهران والقاهرة، وبسقوط هذا المحدد في التقديرات المصرية تصبح الملفات العالقة التي تتطلب معالجة سياسية حكيمة منحصرة في قضايا ثنائية بين البلدين، ولن تكون عصية على تسويتها، وإن تركت على حالها فلن تتولد أضرار كبيرة على المصالح المصرية، مع التزام طهران وأذرعها بعدم المساس بها مباشرة.
ومع أن العلاقات تسير على وتيرة إيجابية حتى الآن، إلاّ أن ما يقلقها أو ما يمكن أن يعكرها في المستقبل، يكمن في انحياز قادة حماس إلى إيران، والنظر إلى الحركة على أنها من أذرعها وليست جزءا من القضية الفلسطينية التي تنخرط فيها مصر منذ عقود طويلة، باعتبارها في صميم أمنها القومي، ومن المكونات التي منحت القاهرة دورا إقليميا، في حالتي الحرب والسلام، وأيّ تحكم واسع من جانب إيران في مفاصل قدرات حماس، والمقاومة عموما، سوف يمثل إزعاجا لمصر، سواء لعبت الحركة دورا في غزة بعد وقف الحرب، أم تراجعت بعد إنهاكها عسكريا.
تنتبه القاهرة إلى خطر ربط مصير القضية الفلسطينية بإيران بدلا من الدول العربية، إذ يمثل هذا الطريق مأزقا، ويجعل إيران على مشارف حدود مصر، وعندما يحدث خلاف معها قد تتحول إلى منغص، أو رادع لأيّ تصرفات مصرية غير مواتية لها.
يبدو هذا السيناريو قويا إذا قطعت الترتيبات التي يريدها رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لغزة الشريان الواصل بين جنوب القطاع ومصر، وتمكن من بقاء قواته في ممر فيلادلفيا، ما يشير إلى تغير تاريخي في الجغرافية السياسية والرئة التي يتنفس منها القطاع، ويفقد مصر واحدة من أوراقها المهمة في التأثير على القضية الفلسطينية وملحقاتها، وقد ينتقل الثقل تدريجيا إلى إيران.
إقرأ أيضا : هل تسرّع بوتين في قرار المواجهة مع الناتو؟
يؤكد التكوين المصري وتوجهات السياسة الخارجية عدم التلاقي مع إيران أو حماس لأسباب عقائدية، لكن المصالح تقتضي تهدئة وليونة وحفاظ على مستوى دافئ من العلاقات مع كليهما دون تطوير يوحي بالانسجام والإقليمي، ما يعني أن ملامح التطور الإيجابي فرضتها دواع أمنية ومحاذير إستراتيجية، بما لا يخل بما هو ثابت في العقل المصري، الذي يفضّل الاحتفاظ بمسافة من طهران، لطموحاتها الزائدة التي لا تلتقي مع القاهرة، وحرص الثانية على تنويع شبكة علاقاتها وعدم حصرها في نطاق أو محور، ساد اعتقاد منذ فترة بأنه مصدر توترات عديدة في المنطقة.
إذاً التقارب الظاهر في العلاقات بين مصر وإيران محكوم بمعطيات إقليمية يغلب عليها طابع الصراع فرضت هذا النمط من العلاقات السياسية، ودفعت إلى التخلي عن حذر سابق، ويصعب توقع أن ترسم الاتصالات الحالية شكلا نهائيا لما يمكن أن تصبح عليه العلاقة في المستقبل، لأن التحولات التي يمكن أن تنجم عمّا يدور في المنطقة، مهما كانت مآلاتها، سوف تؤثر على شكل العلاقة بينهما، وربما تضعها في منطقة دافئة أو رمادية، لكنها لن تعيدها كثيرا إلى الوراء أو تدفعها كثيرا إلى الأمام.
يغرد كل بلد سياسيا بالطريقة التي تتواءم مع أهدافه وطموحاته، لكن العلاقة بين مصر وإيران وصلت خلال الفترة الماضية إلى مستوى أوجد نوعا من الحوار، أو بمعنى أدق غير مألوف بينهما، خرج من رحم حرص القاهرة على تحاشي حدوث انفجار في المنطقة، وتقديم طوق نجاة لطهران ممثلا في الحرص على وقف إطلاق النار في غزة، بما يدفعها إلى المزيد من التريث، والعثور على تفسير يبرر التخلي عن توجيه ضربة لإسرائيل، أو القيام بها في نطاق محدود، من باب حفظ ماء الوجه.