رغم صدور قرار عن مجلس الأمن يدعو إلى هدنة في السودان خلال شهر رمضان، فإن قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان رفض القرار، متشجعاً باستعادة قواته مبنى الإذاعة والتلفزيون في أم درمان قرب الخرطوم، وبذلك فاتت فرصة أخرى أمام التوصل إلى وقف نار ولو موقتاً، بما يخفف عن السودانيين بعضاً مما يعانونه من ويلات حرب مضى عليها 11 شهراً.
إن مكسباً ميدانياً في هذه المنطقة أو تلك، لن يغير في مجرى الحرب الطاحنة التي قتلت عشرات الآلاف وشردت الملايين بين نازح ولاجئ وألحقت أضراراً فادحة بالبنى التحتية في بلد من أفقر بلدان أفريقيا وأكثرها غنى بثرواته الطبيعية. لكنها السياسة التي أفقرت السودان. السياسة التي اعتمدها قادة البلاد منذ الاستقلال ولم تتح للسودانيين أن ينعموا يوماً بالمواطنة الحقة التي تسمو بهم عن الخلافات الطائفية والعرقية والقبلية التي كانت مقتل السودان.
منذ انفجار الصراع المسلح بين البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الملقب “حميدتي” في 15 نيسان (أبريل) من العام الماضي، قُذفَ بالسودان في غياهب مرحلة سوداء أخرى من تاريخه، تحت عنوان القتال من أجل الشرعية. أي شرعية هذه التي يدفع المدنيون ثمناً باهظاً من أجلها، بينما الصراع هو صراع على السلطة بكل معنى الكلمة؟
وما دام الجنرالان على اقتناع بأنه لا يزال أمر الحسم العسكري وارداً، سيستمر القتال ويتوسع ليشمل مناطق جديدة وتنخرط فيه دول إقليمية وقوى دولية. ولم يعد خافياً أن أوكرانيا تساعد البرهان بسلاح المسيّرات في محاولة لاحتواء نفوذ روسيا المتهمة بمساعدة حميدتي.
الأوكرانيون والروس يتحاربون اليوم على أرض السودان، ويصفّون حساباتهم في أفريقيا، بما يؤشر إلى أن الحرب المستمرة تستدرج تدخلات خارجية، تحت شعارات مختلفة لا شأن للشعب السوداني بها. والتقدم الأخير للجيش السوداني تحقق بمساعدة خبراء أوكرانيين بارعين في استخدام المسيّرات وتقنياتها، إلى درجة أنهم يتفوقون على الجيش الروسي في هذا المجال.
ونقل أوكرانيا وروسيا صراعهما إلى السودان، لا يعد إشارة جيدة إلى قرب انتهاء الحرب، بل يؤشر إلى أن الحرب ستطول أكثر، وتالياً فإن معاناة السودانيين ستتصاعد.
وهذا ليس افتراضاً أو مجرد تخمين، بل هو ما تحذر منه الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية. وشكّلت الحرب ضربة قاضية للاقتصاد السوداني الذي كان أصلاً مستنزفاً بعد سنوات من الحروب والعزلة، مع استمرار إغلاق المصارف وتوقّف حركة الاستيراد والتصدير وانهيار قيمة العملة المحلية.
وكتب منسّق المنظمة الدولية للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث قبل أيام في مذكرة إلى مجلس الأمن، أنّه “من دون مساعدات إنسانية عاجلة ووصول للمنتجات الأساسية”، فإنّ ما يقرب من 5 ملايين سوداني، يعانون بالفعل حالة طوارئ غذائية، “يمكن أن ينزلقوا إلى انعدام أمن غذائي كارثي في بعض أنحاء البلاد في الأشهر المقبلة”.
وقبله، أطلق برنامج الغذاء العالمي نداءً لجمع تبرعات بـ242 مليون دولار لمواصلة مساعدة 1,2 مليون لاجئ سوداني، فيما يهدد موسم الأمطار الذي بات وشيكاً بقطع الطرق التي تسلكها قوافل إيصال المساعدات الإنسانية في شرق تشاد.
هذه وقائع يعرفها المتحاربون في السودان، لكنهم ينكرونها ويواصلون القتال، من دون أدنى اكتراث بحياة المواطنين وبمستقبل بلد مر بتجارب الحروب الأهلية ومآسيها، وجرب الانفصال والتقسيم، من دون أن يؤدي أي منها إلى خلاص السودانيين أو يجلب سلاماً واستقراراً دائمين.
إن تحويل السودان ساحة اليوم لصراع القوى الدولية، لن يشكل إلا إمعاناً في تعميق المأساة وتوسيع حلقة الفقر والتشرد، ولن يحقق مكسباً حقيقياً للشعب الذي يعاني قسوة حكامه قبل طغيان الخارج.