“ما حدث في سوريا درس مرير علينا تعلمه”، يقول قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي، لكن ما على طهران تعلمه يبقى حمال أوجه، وصاحب “الشرعية الإلهية” في الجمهورية الإسلامية ليس في وارد تعلم الدروس، إذ يتصرف على أساس أنه المعلم الأكبر الذي يعطي الدروس للجميع في كل شيء، فلا تجربة “حماس” في غزة المدمرة و”حزب الله” في لبنان المضروب بدت محل مراجعة عميقة لقراءة موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، ولا حتى سقوط النظام السوري دفع طهران إلى أكثر من اتهام أميركا وإلقاء اللوم على عناد بشار الأسد ورفضه النصائح والتحذيرات من حلفائه، ولا أحد يجهل سبب إصرار المرشد الأعلى علي خامنئي على القول إن “سقوط الأسد لن يضعف إيران ولا المقاومة” على رغم معرفته بأنه خسر كثيراً من قوة “حماس” و”حزب الله”، وكل شيء مما استثمره عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً في سوريا. ذلك أن خامنئي سارع إلى اللعب على المكشوف، فالحكام الجدد في سوريا هم “مجموعة من مثيري الشغب دربتهم حكومات أجنبية تزرع الفوضى” في نظر المرشد الأعلى، وهو يتوعد كل من أسهم في إسقاط الأسد، ويتوقع والأرجح من باب التحضير والمعرفة، “ظهور مجموعة من الشرفاء الأقوياء” ضد الوضع الجديد.
من الطبيعي أن يقاتل النظام الإيراني من أجل مشروعه الذي خسر عقدة الطرق في الجغرافيا السورية المهمة، لكن اللافت أنه يكرر التجربة الخاسرة نفسها والرهان على الذين ينفي كونهم وكلاء لإيران، وهذا نوع من إعلان حرب في وضع بالغ التعقيد.
اقرأ أيضا.. حرب الوكالة تكشف نفوذ إيران الوهمي
أولاً لأن الصدام سيكون مع تركيا وأميركا ودول أخرى لا فقط مع الحكام الجدد في سوريا، وثانياً لأن أحداث سوريا لم تكتمل بعد، وثالثاً لأن تأثير الحدث السوري كبير جداً في لبنان والعراق وفلسطين والأردن وبقية دول المنطقة، حيث الصراع الجيوسياسي والإستراتيجي يتجاوز هذه البلدان إلى اللعبة الدولية، ورابعاً لأن إيران نفسها ليست خارج التأثر، كما أن قتال وكلائها ضد الأعداء خلال وجود نظام الأسد يختلف كثيراً عن قتالهم في سوريا جديدة.
المكابرة صارت مكلفة كثيراً، وكذلك استمرار الإنكار حول حال إيران وحال “حماس” وحال “حزب الله” وحال “الحشد الشعبي” في العراق ورهانات الحوثيين في اليمن وكل ما أصاب وحدة الساحات، فالتحديات تبدأ ولا تنتهي بمجرد الصراع مع أميركا والكيان الصهيوني وما يسمى “الغرب الجماعي”، وما حققته الجمهورية الإسلامية في العمل على مراحل وتأسيس الميليشيات من أرباح رأتها إستراتيجية لا تكتيكية.
دقت ساعة الدفع بعد أعوام من القبض، واللعبة محكومة بالانتقال من الربح بالنقاط في توظيف الميليشيات وإدارة وحدة الساحات إلى الخسارة بأكثر من النقاط في غزة ولبنان، وبالضربة القاضية في سوريا، والرهان على مجموعة من “الشرفاء الأقوياء” وتغيير المعادلات واستعادة المُلك الضائع هو لعبة مع المجهول فوق كونها خطيرة وخطرة.
لعبة ليست في سوريا فقط بل أيضاً في لبنان والعراق والأردن وفلسطين ثم في إيران نفسها، فالشيخ نعيم قاسم يسلم بأن “هذه المقاومة لا تربح بالضربة القاضية على عدوها بل بالنقاط، ويمكن أن تستمر لـ 10 أعوام أو 50 عاماً، فالمهم هو استمرارها وبقاؤها في الميدان مهما كانت إمكاناتها محدودة”، لكن المسألة تتجاوز أن يتحمل لبنان 50 عاماً أو لا إلى واقع جديد يفرض نفسه، واقع مغلق أمام المقاومة، ليس فقط ممر السلاح بل الميدان نفسه في لبنان قبل سوريا.
أكثرية اللبنانيين ترفع الصوت بقوة ضد العودة لتجربة قاسية في حرب الإسناد لغزة وما تلاها من توحش إسرائيلي في القتل والتدمير، لا بل إن لبنان خضع على مدى عقود من الحرب وبعدها لكل أنواع الأقلمة والتدويل، واتفاق وقف النار يراد له عملياً أن يدار عبر تدويل أمني وسياسي بقيادة أميركا ومعها فرنسا، والانطباع السائد هو أن نص الاتفاق الذي كان بموافقة “حزب الله” عبر رئيس مجلس النواب المكلف نبيه بري وإسرائيل وحاكه الأميركيون والفرنسيون بالإبرة، يوحي أن هناك إرادة عربية ودولية تقول إن اللعبة انتهت ولا حرب بعد اليوم، والتسويات ستكون عبر الدبلوماسية.
ولكن ماذا لو تكرر ما حدث في جنوب الليطاني من تطبيق شكلي للقرار رقم (1701) بعد نهاية حرب عام 2006 حتى “طوفان الأقصى”، سواء بالتراخي المحلي والدولي أو بالتصميم لدى المقاومة الإسلامية؟ وماذا لو نجحت المقاومة في إقامة بنية تحتية عسكرية على مراحل كما فعلت في الماضي، وفشلت محاولات تفكيك تلك البنية العسكرية كما هو مطلوب من الجيش و”يونيفيل”؟
كثيرون يتخوفون من الأخطار ويرجحون معاودة الحرب، وهي هذه المرة أخطر بكثير لأنها ستأخذ طابع حرب وجود بالفعل، ولا سيما بعد المتغيرات في سوريا، ولا مصلحة في مثل هذه الحرب إلا لحكومة بنيامين نتنياهو الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، وليس أمام من يتصور أن هذه مرحلة صعود الأشجار العالية خلافاً لتعلم الدرس المرير في سوريا سوى التذكير بما قاله وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر خلال ولاية الرئيس جورج بوش الأب لمسؤول عربي بالغ في تصعيب محاولات التسوية، “لدينا مثل يقول: كلما تسلق القرد مكاناً أكثر ارتفاعاً أمكن رؤية مؤخرته أكثر”.