حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة وانهيار منظومات الكذب العالمية!
ما زال العالمُ يتقن فعل الاستمرار، كأنّ شيئاً ما لا يحدث، فما زالَ لديه "الخاطِرْ" ليتحدّث عن حقوق الإنسان والقوانين والمواثيق الدوليّة، ولديه الرفاهيّة ليزيد ترسانته العسكريّة مواجهةً "للصدأ".
“إنّ أحداً لم يكتُب حتّى الآن تاريخَ الكذِب”، هكذا قال لي، خلال جلسةٍ خاطِفة بمعرضِ الرباط الدولي للكتاب، الناقد د. خالد بلقاسم (أستاذاً وصديقاً).
انهيارات منظومة الكذب
إنّ حربَ الإبادة الإسرائيليّة على قطاعِ غزّة، وعلى “الكُلِّ” الفلسطينيّ، شكّلت، على ما يبدو، نقطة تحوُّلٍ فاصلة جداً، في الوعي.. وفي الوعي الغربيّ خصوصاً، إذْ “زحزحت” جبال الكذب التي بُنيت وشُيّدت وشُرِّعت على مدارِ سنوات.
وإنّ الأمرَ بسيط؛ ففهمُ ما يجري معزولاً عن السياق التّاريخي الذي أنتَجَه أمرٌ مستحيل، مثلما هي قراءةُ عملٍ أدبيّ بمعزلٍ عن السّياقِ الذي كُتِبَ فيه. و”وطلبة” الجامعاتِ الأمريكيّة خصوصاً، قرأوا هذا في كُتب إدوارد سعيد، التي مازالوا يدرسونها خاصّة في جامعة كولومبيا حيثُ كانَ يُدرِّس، وما كانَ منهم إلّا أنْ رجعوا قليلاً إلى كتب التاريخ؛ ليفهموا “السّبب” الذي أفضى إلى النتائج الحاليّة، وحينها يمكِنُ/أمكنَهُم ببساطة.. فهم كيفَ تبلورَ مصطلحٌ مثل “الشّرعيّة الدّوليّة” من أساسٍ غير شرعيّ وهو الاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ لأرضِ فلسطين التاريخيّة.
ويمكنُ فهم بطلانِ الادّعاءات الصّهيونيّة المرتكِزة إلى “الدين”، من كتاباتِ منظّرينَ ومفكّرين ومؤرّخينَ يهود، وبلغةٍ إنجليزيّة “فصيحة”!، ويمكِنُ تفكيكُ الهيمنة الصّهيونيّة على المتلقّينَ الغربيين لسنواتٍ بأدواتِ المالِ والإعلام، ويمكِن تأمل انهيار القيم الغربيّة كلّها في لحظة “عماء استراتيجيّ” وخوف على مشروعهم الاستعماريّ في فلسطين.
من جهةٍ أخرى، شئنا أم أبينا، فإنّ الدّول الأوروبيّة والولاياتِ المتّحدة استطاعت إرساءَ منظومةٍ قيميّة، ومنظومة ديمقراطيّة عادلة داخلياً، لا يمكنُ إنكارُها، ودولة قانون نظرياً وتطبيقاً؛ فالشّعوب الغربيّة اعتادت على أنْ تتظاهر، حيثُ “لا تمثّل حرية التّظاهر (مثلما هي حريّة التدين والتّفلسُف) خطراً على كيانِ الدّولة”، واعتادوا حريّة الرأي في انتقادِ كلِّ مفاصِل الدّولة، واعتادوا رؤية القضاء ينتصر للمواطِن من المسؤول، وأكثر من ذلك.
إذْ اعتادَ ماكرون الفرنسيّ مثلاً على “البيض والصّفعات” كلّما نزل إلى الشّارع، وغيره كُثُر، أمّا الشارع الأمريكيّ فتظاهر ضدَّ الحرب على فيتنام والعراق والفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا وغيرها من القضايا، ولم يكُن أحدٌ يتوقّع أنّ ثمّة “محظوراً” لا يمكنُ المساسُ به والاحتجاجُ عليه، حتّى اكتشفوا أنّه يمكِنُ التظاهرُ ضدَّ بايدن على أرضِ الولاياتِ المتّحدة، لكنْ لا يمكنُ التظاهر ضدَّ نتنياهو الذي يرتكب “محرقةً نازيةً” جديدة! وأنّ مصطلح “معاداة السّاميّة” فضفاض وواسِع وغير مُحدّد المفهوم أكثر من مصطلح “الإرهاب”، وأنّه في لحظةٍ.. يمكن لعضو كنيست متطرِّفة (طالي غوتليف عن حزب الليكود) أنْ تنعت الإدارة الأمريكيّة برمّتها بـ”معاداة السّاميّة”.
الكتابة والاستكتاب والاكتتاب
من جهةٍ ثالثة، فيبدو أنّ الجهودَ الأمريكيّة لنشرِ قِيم “العم سام” الديمقراطيّة في البلادِ العربيّة والإسلاميّة جاءت بنتائج عكسيّة! إذْ بدأت بنقل تجارب القمْع العربيّة بطريقة طبق الأصل؛ ليسَ لأنّها اعتقلت آلافَ الطلبة الأمريكيّين من داخلِ الجامعات، إضافةً إلى مُدرّسين ومرشّحة للرئاسة، بل لأنّها أيضاً لجأت لـ”استكتابِ الفلسطينيّ”.
وقلتُ سابقاً إنّ الفلسطينيّ يمارسُ الكتابة كفعلٍ يوميّ بجسده وأفعاله، ثمّ الكتابة بمعناها البسيط والعام، وحيث شكّلت كتاباته الفرديّة صورته في أذهانِ العالم، بكلّ ما حملته هذه الصّورة من أيْقنة وتحوّل وتغيُّر لأفق الانتظار، وحيثُ تشكّل في مجملها روايته الجمعيّة، قبل أن ينهار هذا الفعلُ ويضعف أمام زحفِ الازديادِ والانزياح في الفعل “كتَبَ”، حينَ سَطا الاستكتابُ بكلّ تمظهراته المرضيّة على قلم الفلسطينيّ وجسده، فهو مستكتَبٌ من آلة الاستعمار الاستيطانيّ لنقصٍ حادٍ في “بلاغته” الوطنيّة، ومستكتَبٌ من قِبل تبعاتِ هذه الآلة حينَ انزلقَ في “المؤقّت المستمرِّ” والمتناقِص، ومستكتبٌ للدّفاع، عن أشياء وأشخاص لم تعُد تهمّ أحداً أو تعني شيئاً، والفلسطينيّ أيضاً مُسلّع، إذْ افتُتِح اسمه وجسدُهُ ومصيره “للاكتِتاب” العام في هذا الاحتِقان الفاسِد، حينَ تحوّل السّؤال إلى الاستثمار، ليسَ فيه، بل عليه، وبالتّالي؛ على الفلسطينيّ أن يبحث خلال “اكتتابه” العام عن حصّته في رأس المال، وعوائِده من خلال تحديد مكانِه بين الفلسطينيّ النافع والمنتَفِع.
في صحيفة “newsweek” الأمريكيّة (ونقلته “The Jerusalem Post” العبريّة)، طالعنا قبل نحو أسبوعين مقالاً لناشطٍ فلسطينيّ غِزّي اسمه (ح.هـ)، يوجّه فيه رسالة إلى الطّلبة المتظاهرين في الجامعات الأمريكيّة، ويرى فيه أنّهم “يُضرونَ القضيّة الفلسطينيّة” بهذا التّظاهر، وأنّهم (وخاصّة في جامعة كولومبيا) يردّدون عبارات “معادية للسّامية”، ناعتاً هذه التّظاهرات بـ”النفاق”؛ لأنّها لم تخرج عندما استولت حماس على غزّة، وبالتّالي فهدفُها كراهية اليهود لا إسنادُ الشّعب الفلسطينيّ على حدِّ تعبيره. وبقيَ على الإعلامِ الأمريكيّ أنْ يستضيفَ “محللاً سياسياً”؛ يؤكّد أنّ تظاهرات الجامعات الأمريكيّة “ممولة” من جهةٍ معادية، كروسيا أو الصّين أو كوريا الشماليّة أو “الإخوان المسلمين”، وأنّ هدفها الحقيقيّ تضليل الرأي العامّ عمّا يرتكبه بوتين بأوكرانيا، أو ما ترتكبه إيران بحقِّ النّساء، و(…) إلى آخره.
أملاً بتجاوز التّصنم في المكان
في السّجن المفتوحِ للفرجة والاستعراض: نحن، ما زال العالمُ يتقن فعل الاستمرار، كأنّ شيئاً ما لا يحدث، فما زالَ لديه “الخاطِرْ” ليتحدّث عن حقوق الإنسان والقوانين والمواثيق الدوليّة، ولديه الرفاهيّة ليزيد ترسانته العسكريّة مواجهةً “للصدأ”، وترسانته الإعلاميّة لتدعيم “الكساد المعرفيّ” والتدجين الممنهج، وما زال يستمر في طباعة البيانات المستنسخة، واستكتاب الفلسطينيين، وتعميقِ شروخِهم (شروخنا) التي وصلت العظم.
كلّ هذا الوجود البشريّ أصبحَ بلا قيمة، وكلّ ما نفعله ما هو إلّا سعي تافه ضمنَ أشياء بلا قيمة، في رحلةٍ غير عادلة لشعبٍ أعطت “الشرعية الدوليّة” أرضه وتاريخه وتراثه لدولةِ الاستعمارِ، وكرّست “الشرعيّة التمثيليّة” جهدها وحصرته في ضمانِ أمنِ هذا المستعمِر، ووقفت الشّرعيّة “الأخلاقيّة” ضدّ أخلاقها، بمعايير “المتحضّر والبربري”، ووقفت “الشّرعيّة القانونيّة” على انتفاءِ الاختصاص في قضاياه (…)، رحلةٌ غير عادلة لشعبٍ تشتّتَ في منافي الأرض والأفكار والانتماءات والتّحالفات… ووقفَ هو الآخَر على الفُرجة المُريحة من إبادته.
لكن يبقى الأمل أنّ نقطة الوعي والتّحولات هذه كلّها، ستصيبُ (في مرحلةٍ قريبةٍ ما) الجيلَ الفلسطينيّ الجديد، أو ستسهمُ، برأيي، في بلورة جيلٍ فلسطينيّ سيقودُ مرحلة قريبةً قادمة، سيتجاوز فيها “التّصنم” التاريخيّ في الممرِّ المؤقت، و”الاقتسام” الفلسطينيّ، وسيضمُّ شباناً انسلخوا عن أحزابِهم الميتة، (كلّها)، لصالِحِ “وعي” فلسطينيّ جديد، وقرارٍ فلسطينيّ غير مرتهنٍ بأيّ طرف، وقلمٍ فلسطينيّ غير مستكتبٍ لأيّ أحد، و”دبلوماسيّة” فلسطينيّة قادرة على التأثير، ودولة فلسطينيّة “آمِنة” للفلسطينيين وليسَ لأعدائهم.