تركيا

حرب إسرائيل على حزب الله.. إلى أي الجبهات ستنضم تركيا؟

على مدى أكثر من عقد، لم تقم علاقة رسمية بين النظام التركي وحزب الله، غير أن هذا لم يمنع بعض المؤسسات غير الرسمية من التواصل مع شخصيات مقربة من حزب الله، فنسج حزب السعادة الإسلامي، ذو التوجه الإخواني، في تركيا، وحزب الله علاقة وثيقة حتى اليوم، شملت زيارات متبادلة بين الجانبين

تسير تركيا على خط النار بين عدم إظهار التضامن مع حزب الله وإيران من جهة، والمطالبة بإنهاء التصعيد الإسرائيلي من جهة أخرى، فقد عارضت أنقرة -بشراسة- العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لكنها بقيت متحفظة منذ بدء الهجمات الإسرائيلية في لبنان ضد حزب الله، لا سيما بعد اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، في سبتمبر (أيلول) الماضي، على عكس موقفها حين اغتيل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس قبل شهور.

فعلى مدى العقود الماضية، سعت أنقرة إلى الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، مع الحفاظ على علاقة معقدة مع “درة التاج الإيراني” حزب الله، لكن مع اقتراب شبح احتلال إسرائيل لبنان، فإن تركيا على استعداد للاضطلاع بدور محفوف بالأخطار، ولن يكون هذا الدور مدفوعًا بطموحاتها الإقليمية فحسب، بل أيضًا بتنافسها الطويل الأمد مع إسرائيل وإيران.

إن جُل ما يقلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكشفت عنه الجلسة الاستثنائية المغلقة للبرلمان التركي منذ أيام قليلة، هو مستقبل المشروع التركي في الإقليم؛ فحرب الوكالة التي دخلها أكثر من لاعب في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، تهدد بتوسيع رقعة الجبهات لتطوّق الحدود التركية، وهو ما يشكل خطرًا مباشرًا على الأمن القومي التركي، ويتطلب من أنقرة خطة أكثر مرونة للتعامل مع الوضع الدقيق الراهن، ما يطرح سؤالًا رئيسًا مفاده: هل تدعم أنقرة حزب الله في حربه مع إسرائيل؟ وهل ستتغير النظرة العدائية التركية للحزب في سبيل القضاء على العدو المشترك “إسرائيل”؟

شواهد علاقة تركيا التاريخية بحزب الله

لقد انخرطت تركيا تقليديًّا مع لبنان من أجل بناء علاقات دبلوماسية، ولكنها أبقت حزب الله على مسافة إستراتيجية، عكست هذه المسافة المحسوبة مصلحة أنقرة في الحد من نفوذ طهران في المنطقة، وانطلقت العلاقة بين تركيا وحزب الله من التقارب الحذر إلى أن وصلت إلى العداوة الصريحة على مدى العقود الماضية.

حظيت زيارة رئيس وزراء تركيا آنذاك رجب طيب أردوغان بحفاوة رسمية وشعبية كبيرة في عام 2010، عبّر عنها حسن نصر الله ومناصروه الذين حملوا الأعلام التركية في قلب الضاحية الجنوبية، ورحبوا بزيارة أردوغان للبلاد، ولعل الجهود التركية لحل الأزمة السياسية اللبنانية عقب إسقاط حزب الله حكومة سعد الحريري الأولى، كان لها دور في توثيق العلاقة بين الحزب وتركيا، كما عززت الوساطة التركية لإنهاء أزمة الأسرى اللبنانيين، عام 2012، علاقة أنقرة بحزب الله.

ولكن تلك العلاقة الوثيقة لم تستمر طويلًا؛ إذ سرعان ما بدأ التوتر بين الجانبين بعد أن بدأ حزب العدالة والتنمية بتأييد المعارضة السورية المناهضة للرئيس السوري؛ لذا قطع حزب الله العلاقات مع الحكومة التركية احتجاجًا على عدائها العلني لحليف الحزب بشار الأسد، ومع شن الأسد حملة قمع شديدة على جماعات المعارضة، واندلاع الحرب الأهلية في سوريا، أصبحت تركيا بمنزلة شريان حياة للمعارضة السورية، حيث وفرت قاعدة للشخصيات العسكرية والسياسية، ولا يزال كثير من عناصر المعارضة السورية متمركزًا في تركيا.

وعلى مدى أكثر من عقد، لم تقم علاقة رسمية بين النظام التركي وحزب الله، غير أن هذا لم يمنع بعض المؤسسات غير الرسمية من التواصل مع شخصيات مقربة من حزب الله، فنسج حزب السعادة الإسلامي، ذو التوجه الإخواني، في تركيا، وحزب الله علاقة وثيقة حتى اليوم، شملت زيارات متبادلة بين الجانبين، لكن تلك العلاقة لم تتطور لتصل إلى الحزب الحاكم في تركيا، أو أجهزة الدولة، دبلوماسية كانت أو أمنية.

موقف أنقرة من الحرب الإسرائيلية على حزب الله

على عكس الموقف التركي الواضح من اغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية في يوليو (تموز) الماضي، إثر غارة إسرائيلية استهدفت قلب طهران، أصدر مسؤولون أتراك تصريحات حذرة بشأن اغتيال إسرائيل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في سبتمبر (أيلول) المنصرم، حيث انضم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مجموعة من الزعماء العرب الذين أصدروا بيانات تنتقد الهجمات التصعيدية الأخيرة التي شنتها إسرائيل على لبنان، دون الإشارة -صراحةً- إلى اغتيال نصر الله، واكتفى  بالقول إن “لبنان والشعب اللبناني هما الهدف الأخير لسياسة الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل منذ 7 أكتوبر”، في حين اعترف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بمقتل نصر الله، لكنه بدلًا من إدانة الهجوم، أشار إلى أن الهجوم ضرب قلب محور المقاومة الإيراني، محذرًا من الفراغ الذي سيتركه غياب نصر الله؛ فاغتياله خسارة كبيرة ليس لحزب الله فحسب؛ بل لإيران ومحور مقاومتها، غير أن التصريح الوحيد المختلف عن الخط العام للحكومة هو ما أدلى به نعمان كورتولموش، رئيس البرلمان التركي، وعضو الحزب الحاكم؛ بأن اغتيال إسرائيل لنصر الله هو نتيجة خطيرة لسياسة الاحتلال ضد شعوب المنطقة.

ومن هذا، يمكن فهم تباين الموقف التركي بين مقتل زعيم حزب الله وزعيم حركة حماس، في سياق العداء مع الحزب اللبناني، خاصة بعد دوره في دعم الرئيس السوري بشار الأسد منذ بدء الحرب الأهلية السورية، في مقابل دعم أردوغان للمعارضة السورية في البلاد، فبينما تتعاطف تركيا مع الفلسطينيين المسلمين السنة، لا يمتد هذا التعاطف إلى دعم إيران وحزب الله وحلفائهما الشيعة في المنطقة، مثل الحوثيين في اليمن، والفصائل العراقية، فإلى جانب البعد الطائفي لتركيا في موقفها من اغتيال قائد الحزب، يتجلى البعد البراغماتي لأنقرة في مصالحها من إضعاف حزب الله؛ أهم وكيل لإيران في المنطقة.

مستقبل العلاقة بين حزب الله وتركيا

إن العلاقة الشائكة بين تركيا وحزب الله تفرض تعامل أنقرة بدقة مع الحزب اللبناني في ظل المستجدات الجارية في المنطقة، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي على البلاد عقب اغتيال نصر الله؛ ومن ثم يمكن التكهن بمصير العلاقة بين حزب الله وأنقرة في الفترة المقبلة، على النحو التالي:

السيناريو الأول: الدعم الضمني لحزب الله:

قد تتبني تركيا موقفًا محايدًا نسبيًّا من استهداف حزب الله تل أبيب، فيما تركز في تصريحاتها على انتقاد العدوان الإسرائيلي على لبنان؛ ما قد يعكس دعمًا ضمنيًّا لحزب الله في عملياته ضد الكيان، ويعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا؛ لعدد من المسوغات، يتمثل أبرزها في أن الحرب الإسرائيلية على غزة، وتوسعها الإقليمي، قد وضعت أنقرة وحزب الله في جانب واحد إلى حد ما، خاصةً أن الرهانات السياسية التي تملكها أنقرة في لبنان أقل كثيرًا من الرهانات التي تملكها في فلسطين، وقد تطرح الأيام المقبلة فكرة المشاركة بقوات تركية في قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، ووضعها على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية كمنطقة عازلة، وهذا من شأنه أن يردع إسرائيل عن إطلاق النار على القوات التركية؛ ما يشكل حماية لحزب الله من التدمير على يد القوات الإسرائيلية، كما سيساعد ذلك على منع  تصعيد الحرب؛ وهو ما يؤدي إلى عودة ملايين اللاجئين السوريين من تركيا إلى وطنهم، وهو هدف سياسي رئيس لأردوغان مع تصاعد خطاب الكراهية التركي تجاههم، والأزمة الاقتصادية الداخلية في تركيا. ومن شأن هذا السيناريو أن يعزز أيضًا علاقة تركيا بإيران؛ فمن المرجح أن تحظى بتقدير حزب الله؛ ما يضع تركيا في موقع الحكم الإقليمي في المنطقة، غير أن العائق الرئيس لتحقيق هذا السيناريو يرتبط بمدى تمتع تركيا بالثقل الدبلوماسي في لبنان للتوسط في هذا الترتيب، ورغبة إيران وحزب الله في انتهاء الحرب الدائرة مع إسرائيل.

السيناريو الثاني: العداء العلني لحزب الله:

قد تنتهج تركيا نهجًا عدائيًّا مع حزب الله من خلال تصريحات رسمية للرئيس التركي، أو أعضاء حكومة حزب العدالة والتنمية، تعبر عن الرفض التركي لاستهداف الحزب تل أبيب، أو اتخاذ خطوات تؤدي إلى تقويض قوة حزب الله في الحرب الدائرة مع إسرائيل، وقد يأتي هذا في صورة إدانة أنقرة لقيادات الحزب الحالي، والتقليل من خسائر إسرائيل من جراء عمليات حزب الله، وإصدار تقارير تعبر عن تراجع القدرات العسكرية لحزب الله، ونجاح تل أبيب في تدمير البنية التحتية للحزب؛ ومن ثم يعزز حدوث هذا السيناريو -الذي يعد سيناريو أقل ترجيحًا في المشهد الراهن- أن الهجوم الإسرائيلي على حزب الله في لبنان مطمئن لتركيا، التي قد تغتنم الفرصة لتعزيز نفوذها الإقليمي في مواجهة منافستها إيران، خاصة إذا تُرجمت تلك الحرب إلى إضعاف طويل الأمد لإيران والجماعات الشيعية المتحالفة معها، ومنها حزب الله، فإن ذلك سيمهد الطريق أمام تركيا للاضطلاع بدور أكثر هيمنة في سوريا والعراق، لا سيما في ظل سعي أردوغان الحثيث إلى أن يكون زعيم العالم الإسلامي، وبطل الفلسطينيين، والترويج للدولة التركية بأحقيتها في قيادة سنية للمنطقة تكون نواتها سوريا والعراق، خاصة إذا أُضعف حزب الله؛ الداعم الأول لنظام بشار الأسد الشيعي.

إقرأ أيضا : كيف أصبح موقع روسيا على الخارطة السياسية اليوم

الخاتمة

تشعر تركيا بالقلق إزاء تصعيد إقليمي أكبر، وحرب شاملة بين إيران وإسرائيل، مع عواقب لا يمكن التنبؤ بها، ومع أن تركيا قد لا تؤدي دورًا محوريًّا في أي صراع مستقبلي، وأن استثماراتها المباشرة في لبنان محدودة، فإن بيروت تمثل رقمًا مهمًّا في معادلة شرق المتوسط، فضلًا عن إدراك أردوغان أن حربًا واسعة بين إسرائيل وحزب الله قد تؤدي إلى أزمة إقليمية من شأنها أن تؤثر سلبًا في مصالح تركيا في بلدان المنطقة؛ ومن ثم تطمح أنقرة حاليًا إلى صياغة سياسة مختلفة في الشرق الأوسط، تهدف إلى فتح فصل جديد مع كل من سوريا ولبنان؛ ومن ثم اتخاذ موقف معتدل بشأن حزب الله وإسرائيل. ومع أن أردوغان حافظ -حتى الآن- على مستوى معين من التواصل الدبلوماسي مع حكومة بنيامين نتنياهو، فإن هذا لا يمنع ضرورة أن تفكر تركيا في الكيفية التي قد تؤدي بها حرب إسرائيلية واسعة النطاق في جنوب لبنان إلى تغيير الصورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى