في أواخر سبتمبر (أيلول) 2024، أصدرت إدارة بايدن مسودة قانون قد يفضي إلى حظر المركبات الصينية الذاتية القيادة ونظيراتها المتصلة بالإنترنت، وكذلك مكوناتها، من دخول السوق الأميركية. وشكل ذلك الخطوة الأجد في مجموعة مماثلة اتخذها صناع السياسة الأميركيون بهدف حماية الأمن الاقتصادي للولايات المتحدة. وفي ظل ولاية ترمب الأولى، فرضت واشنطن قيوداً على شركتي الاتصالات “زد تي إي” ZTE و”هواوي” Huawei.
واستمر الرئيس جو بايدن في مجموعة من سياسات ترمب تجاه الصين. وفي أواخر 2022، تقدم بباقة جديدة منها شملت إطلاق ضوابط أوسع على الصادرات، طاولت أشباه الموصلات والمعدات المستخدمة في صنعها. وفيما يلوح في الأفق أن إدارة ترمب المقبلة مستعدة لتسريع وتوسيع تلك القيود إلى أمدية أوسع؛ يغدو من المهم التفكير في تتبع سجل تلك السياسات؛ والأخذ بكميات من الخلاصات المتضمنة فيه.
وتحوز واشنطن منظومة من الأدوات العالية الكلفة تشمل ضوابط التصدير، والتعرفة الجمركية، وحظر المنتجات، والتدقيق في الاستثمارات الموجهة إلى الداخل والخارج، وتقييد تدفق البيانات، وحوافز لإحداث نقلة نوعية في سلاسل الأمدادت، وتضييق التبادل الأكاديمي والتعاون في البحوث، وسياسات حيال التمويل الصناعي، وحوافز لشراء المنتجات الأميركية. والأهداف من هذه الإجراءات متنوعة أيضاً، وتشمل تأخير تقدم الصين في التقنيات الأكثر تطوراً التي تملك استخداماً مزدوجاً، وخفض الاعتماد المفرط على الصين بوصفها مصدراً للأجهزة الإلكترونية وسوقاً للبضائع الغربية، وحرمان الصين من الحصول على بيانات حساسة، وحماية البنية التحتية الحيوية، ومناهضة الضغط الاقتصادي، وحماية الوضع التنافسي لأميركا في الصناعة مع تعزيز القوى العاملة فيها.
وإن اندفاع الصين بشكل واسع ومصمم صوب ميركنتلية تكنو- قومية [اقتصاد سوق يعتمد مفهوم الزبائنية ويتركز على تقنيات وطنية] يفرض أخطاراً حقيقية على رخاء الولايات المتحدة وأمنها الاقتصادي، وكذلك الحال بالنسبة إلى مجموعة من الدول الأخرى. وبالتأكيد، يتوجب فعل شيء ما حيال ذلك، لكن اتباع واشنطن سياسات تقييدية بشكل متزايد، حصد نتائج متمازجة ومتفاوتة بشكل كبير. ولنأخذ مثلاً هدف إبطاء التقدم التكنولوجي للصين في الوصول إلى التقنيات الأعلى تطوراً، مع الحفاظ على تفوق نسبي للولايات المتحدة في التكنولوجيا. وفي خضم السعي لتحقيق ذلك الهدف، أحرزت واشنطن تقدماً في بعض المجالات على غرار إبطاء قطاع أشباه الموصلات الصيني، لكنها واجهت تسارعاً متزايداً في نجاح الصين ضمن قطاعات أخرى على غرار السيارات الكهربائية والبطاريات. وثمة تجاذب داخلي متأصل بين الأهداف المختلفة التي تنشدها واشنطن في الأمن الاقتصادي، مما يجعل من المحتم أن يأتي التقدم في تحقيق بعض الأهداف على حساب بعضها الآخر. ويضاف إلى ذلك أن صناع السياسة في الولايات المتحدة، لم يحسبوا بشكل وافٍ كيفية تأقلم الصين ودول أخرى، مع القيود الأميركية.
ومع عودة الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى السلطة، قد يتوجب على إدارته التفكير بحكمة في حقيقة أن القيود السارية حاضراً ضد التكنولوجيا الصينية قد أوصلت على نحوٍ حاسم إلى نتائج متمازجة ومتفاوتة. ولقد وصفت إدارة بايدن استراتيجيتها تلك، بعبارة “حديقة صغيرة، وسياجٍ عالٍ”، بمعنى فرض قيود مرتفعة على عدد صغير من التقنيات المحورية الحاسمة. ولكن تلك الحديقة تتوسع باستمرار، مع ظهور نتائج سلبية غير مقصودة من جانب الولايات المتحدة. وحتى إذا اتبعت إدارة ترمب عملية فك ارتباط [بين الاقتصادين الأميركي والصيني]، فسيترتب على ذلك تكاليف أضخم بأضعاف مضاعفة.
نتائج متمازجة ومتعاكسة
تتبدى فاعلية الإجراءات الأميركية بأوضح صورها حينما نتفحص حال شركات محددة وصناعات معينة جرى استهدافها [بتلك الإجراءات]، خصوصاً ضوابط التصدير وتقييد الوصول إلى السوق الأميركية. ولقد واجهت الصناعة أشباه الموصلات الصينية، أشد الصعوبات. وخلال السنوات القليلة المنصرمة، وضعت وزارة التجارة الأميركية نحو 850 من الأفراد والمؤسسات في الصين، على “لائحة الكيانات” الخاصة بتلك الوزارة، مما ترجم عملياً إلى حظر وصولهم إلى التقنيات الأميركية الأكثر تقدماً.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، فرضت وزارة التجارة أيضاً مجموعة قيود متشددة على الشركات الأميركية التي تبيع أشباه الموصلات المتطورة ومعدات تصنيعها إلى الشركات الصينية. وكذلك أجبرت واشنطن صناعاً كباراً آخرين، خصوصاً في اليابان وهولندا على تقييد تلك المبيعات إلى الصين. وتولد من ذلك تأثير مزلزل ومباشر على شركات صينية عدة لأنها غدت غير قادرة على شراء أنواع معنية من الرقاقات الإلكترونية على غرار ما تصنعه شركة “إنفيديا” Nvidia من أشباه الموصلات المستعملة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وقد ترادف ذلك مع هجرة مقدمي المعدات والبرمجيات الغربيين لمؤسساتهم الصناعية في الصين، مما وضع الصينيين أمام تحدي أن يفكروا بأنفسهم في كيفية صنع تلك الأشياء. ووفق ما أخبرني أحد المديرين التنفيذيين الصينيين، “لقد انتقلنا من كوننا طهاة المطبخ إلى العمل كفلاحين في الحقول”. وكذلك جعلت المردودات الخفيضة والأداء السيئ الشركات الصينية متخلفة أكثر عن منافساتها الغربية، مقارنة بما كانت عليه قبل تلك الإجراءات.
وعمدت بكين إلى توقيع شيك على بياض لشركات صناعة الرقاقات الإلكترونية الصينية، إضافة إلى منحها كل الحوافز المتخيلة، في سياق جهد يرمي إلى سد الثغرات وإقفال الفجوات، ولكنها لا تزال تتخلف عن نظيراتها في الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية. وعانت شركات صناعة المعدات [اللازمة لتصنيع الرقاقات الإلكترونية] من تخلف أشد وطأة مما حصل مع شركات صناعة أشباه الموصلات. وقد نقل إلي أحد المستثمرين الصينيين في مجال الذكاء الاصطناعي أن حظر رقاقات “إنفيديا” آخر جهود الصين في تدريب النماذج اللغوية الكبرى لديها [هي أساس تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي]، وأبطأ مسار تطوير أنواع أخرى من التطبيقات الرقمية المتخصصة في الأعمال.
وحاضراً، تتأهب الولايات المتحدة لفرض إجراءات ضد صناعات أخرى. في ذلك الصدد، ستآزر التعرفات الجمركية العالية التي فرضها بايدن على المركبات الكهربائية والبطاريات خلال العام الجاري، مع الحظر المتوقع فرضه على المركبات المؤتمتة المستقلة وتلك المرتبطة بالإنترنت؛ في جعل السوق الأميركية خارج قدرات صناعة الآليات الصينية بأكملها. ومن المحتمل أن تمنع الولايات المتحدة حتى شركات الأدوية الأميركية من استخدام الشركات الصينية في تنفيذ التجارب السريرية، وتقيد الاستثمارات الأميركية في صناعة الأدوية في الصين، وتحظر الأدوية التي تطورها الصين من دخول السوق الأميركية. وإذا استطاعت الصين دعم إنتاج طائرتها التجارية الجديدة “سي 919” C919، وشرعت في تصديرها عالمياً؛ فلسوف تضع واشنطن مجموعة من المكونات اللازمة لتلك الطائرة على لائحة ضبط التصدير، ما من شأنه توجيه ضربة ساحقة إلى شركة “كوماك” COMAC الصينية التي تتولى إنتاج تلك الطائرة. وتذكيراً، فإن كل الأنظمة التي تكفل لطائرة “سي 919” الاستمرار في التحليق، تأتي إما من مورد أميركي أو أوروبي.
وأبعد من الحديث عن كل قطاع على حدة، تعمل الضغوط الأميركية على إبطال فاعلية الاقتصاد الصيني. وقد أدت معاملة الصين كمنافس استراتيجي إلى تحفيز القيادة الصينية على التشدد في الأمن الوطني بدرجة أكبر مما مارسته باستمرار قبل ذلك. وفي أوقات سابقة، ترجم تركيز بكين الفائض على الاعتماد على الذات، إلى ضخ استثمارات ضخمة في القطاعات التي أعطيت أولوية متقدمة، مما ولد فائضاً في الإمداد، وأضر في نهاية المطاف بشركات صينية كثيرة [تلك التي لم تعتبر بأنها موضع أولوية متقدمة]، وراكم توترات مع شركاء تجاريين [من مقدمي الإمدادات الآتية من مصادر أخرى]. وتولد عن تلك المعطيات السابقة جو من الريبة وانعدام اليقين أقلق المستثمرين الصينيين في القطاع الخاص، بل طاول حتى الأسر؛ فنجم عن ذلك تدنياً في التمويل والاستهلاك كليهما معاً. وتستحق بكين شطراً كبيراً من اللوم عن إبطاء الاقتصاد، لكن سياساتها تتشكل، وإن جزئياً، بوصفها استجابة لتنامي ضغوط واشنطن عليها.
واستكمالاً، أبدى كثير من الخبراء الاقتصاديين الصينيين قلقهم من التوجه الوطني للسياسة الاقتصادية في بلادهم، وتشككوا في مدى فاعلية الاعتماد على الذات. وكذلك أعربوا عن اعتقادهم بأن العودة إلى مقاربة أكثر تلاؤماً مع سياسة السوق باتت ضرورية. وعبر بعضهم عن تلك المخاوف علانية، لكن هناك خطراً فعلياً على مسارهم المهني، ومن ثم، لزم معظمهم الصمت حيال تلك المجريات.
في مقابل ما حملته القيود الغربية من أضرار، فإن تشديدها أدى أيضاً إلى تحفيز تطورات تقنية صينية ما كانت لتحقق لولا تلك القيود. وقبل فترة قصيرة، سألت عن مدى التحفيز غير المقصود للجهود الصينية التكنولوجية الذي تأتى من سياسة القيود الأميركية وإجراءاتها. وقد أجاب أحد المسؤولين الأميركيين على ذلك بسؤال مفاده إن كان الصينيون سيبذلون تلك الجهود التقنية حتى لو لم تفرض القيود الأميركية عليهم. وإن الإجابة هي “لا”، وبكل قوة.
ومنذ نهاية “حرب الأفيون” عام 1842، كرست الصين الاعتماد على الذات كهدف استراتيجي. وقد أدت الإجراءات التقييدية التي قادتها الولايات المتحدة إلى تصاعد سريع في نهوض الصين بتلك المهمة. ويتمثل الهدف المركزي من خطة “صنع في الصين” التي أعلنت عام 2015، إلى صعود في مكانة المنتجات التكنولوجية الصينية في الأسواق العالمية. وقد اقتضى الأمر أن تظهر واشنطن قوتها وتمارس ضغوطاً مضادة، مما دفع بكين إلى الانتقال للتركيز على توطين سلاسل الإمدادات من البداية إلى النهاية، خصوصاً في التكنولوجيات الاستراتيجية على غرار أشباه الموصلات، وتكنولوجيا الاتصالات المتطورة، والذكاء الاصطناعي. وخلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وظفت الصين مصادر واسعة في معظم المجالات الأكثر تطوراً في صناعة أشباه الموصلات وأدواتها. وعلى نحو مماثل، حاولت بكين أيضاً تطوير حلول تكنولوجية متقدمة عبر الاعتماد شبه الكلي على مكونات صينية، ضمن جهد عرف باسم “حذف الحرف أ” Delete A [بداية كلمة أميركا]، بمعنى إزالة التقنية الأميركية من سلاسل الإمدادات الصينية المتعلقة بصناعة التكنولوجيا.
وحاضراً، بات الصراع التكنولوجيا الأميركي- الصيني جزءاً من استراتيجية العمل للشركات الخاصة والعامة، بعدما شكل ذات مرة هاجساً في الأروقة الرسمية الصينية. وسواء أكان مرد ذلك إلى الولاء الوطني أو الطموح التجاري، فقد توجهت أنظار الشركات الصينية ومنظمات البحوث، إلى أهداف لا تكف عن الارتفاع في طموحاتها، مع توسيع الاستثمارات في مجال البحوث والتطوير إلى بلدان خارج الحدود الصينية في جنوب شرقي آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية.
ولدت القيود على التكنولوجيا الصينية تداعيات غير متوخاة
وفي مفارقة ساخرة، فإن القيود التي قصد منها تقييد التقدم التكنولوجي الصيني هي بالتحديد التي ساعدت على إحداث فورة في ذلك التقدم، ضمن مساحات عدة. وشهدت الصين تحسينات طاولت قطاعات عدة، في مجالات البحوث والتطوير، ومخرجات التصنيع، وتوسع المضمون المحلي في الصادرات. وقد كشفت زياراتي الأخيرة إلى شركات صناعة السيارات وبطارياتها الكهربائية في الصين، عن وجود إحساس واضح لدى تلك الشركات بمشهدية التنافس العالمي، وتوفر قدرات قوية لديهم في المنتجات وعمليات الابتكار، والمصادر المالية التي يمكن الوصول إليها مستقبلاً. وأبدى كبار ممثلي الشركات الأجنبية في الصين قلقهم حيال السياسات التمييزية للصين في المجال الصناعي، لكنهم باتوا الآن يشددون بصورة ممنهجة على أن التحدي الرئيس الذي يواجههم يتمثل بوجود منافسين صينيين مقتدرين بشكل متقدم.
ولا تزال الشركات الصينية متأخرة في التنافس ضمن صناعة أشباه الموصلات، لكنها تراكم بصورة متدرجة منظومة محلية متكاملة تشمل سلاسل الإمدادات. وتعمل على تخزين معدات الصناعة بالطباعة الثلاثية الأبعاد، وتنكب على إنجاز تقدم متصاعد في المعدات المحلية وصناعة البرمجيات الرقمية المحلية. ويظهر أن الشركات المحلية تتبع توجيهات بكين بخصوص زيادة استخدام الرقاقات المحلية. ويتقصى البحاثة الصينيون مسارات جديدة في تصنيع المواد وهندسة الرقاقات الإلكترونية ومنهجيات الحوسبة، مما يتضمن إمكانيات كامنة قد تتيح لصناع أشباه الموصلات الصينيين إحداث قفزة كبرى إلى الأمام في تخطي منافسيهم الأجانب. ويشبه ذلك ما فعله صناع السيارات الصينية الكهربائية الذين تجاوزوا الهيمنة الغربية على محركات الاحتراق الداخلي [المستخدمة في المركبات والطائرات والآليات التي تعتمد على الوقود]. وحينما استنطقت المديرين التنفيذيين للشركات الصينية في الذكاء الاصطناعي عن أيها الأكثر قرباً من النجاح في أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي؛ جاءت إجابتهم غالباً لتشير إلى “هواوي” التي أطاحت بها العقوبات الأميركية، لكنها لم تسقطها بالضربة القاضية. وقد عانت أعمالها في مجال الهواتف الذكية من ضربة كبرى، لكنها الآن باتت تمتلك نظام تشغيل مستقلاً بالكامل، ويسمى “هارموني” Harmony، وقد ثبتته على أجهزتها كافة.
وفي سياق مماثل، باتت الصين الآن متقدمة على الولايات المتحدة وبقية العالم في تقنيات الطاقة النظيفة. وقد جنت ثمار رهانها الذي حفت به الأخطار، على المركبات الكهربائية؛ وأعطى أكله بشكل مؤثر في مجال إعداد المواد الخام، والمعلوماتية الاتصالية والبطاريات، ونماذج السيارات والبنية التحتية لشحن البطاريات. وينطبق الوصف نفسه على طاقات الرياح والشمس والماء والذرة. ويتمثل الشيء الأكثر جدة في ذلك المضمار بإحراز الشركات الصينية تقدماً أساسياً في تطوير سيارات ذاتية القيادة مع ما يتطلبه ذلك من بنية تحتية تقنية. وكذلك تشكل الصين المصدر لشريحة متنامية من الأدوية المبتكرة التي وصلت إلى المراحل النهائية من تصنيعها ودخلت الأسواق العالمية. وحتى مع توجه الشركات المتعددة الجنسية إلى التنويع مع الابتعاد عن الصين، إلا أن بعض أضخم المستثمرين الجدد في جنوب شرقي آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، هم شركات صينية. ولقد قصد من القيود التكنولوجية حرمان الصين من الوصول إلى التكنولوجيا الغربية، إلا أنها دفعتها إلى ممارسة نشاطاتها على مستوى معولم، وبناء شبكات ضخمة عابرة للحدود الوطنية للدول، بأسرع مما كانت لتفعل في غياب تلك القيود.
ضربات اقتصادية مرتدة عكسياً
يتوجب على صناع السياسة الأميركية إجراء تقييم للكيفية التي أدت فيها إجراءات الأمن الاقتصادي للولايات المتحدة إلى عملية مزدوجة من إبطاء وتسريع الاندفاع الصيني التكنولوجي. أبعد من ذلك، يجدر بهم الاستفادة من السبل التي عملت فيها تلك الإجراءات على تشكيل المسار التكنولوجي للولايات المتحدة نفسها. في ذلك المجال أيضاً، جاءت النتائج متمازجة ومتنافرة.
ولقد تضمنت أجزاء أساسية من التشريعات المتعلقة بالتكنولوجيا الأميركية، على غرار “قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم” CHIPS and Science Act و”قانون خفض التضخم” Inflation Reduction Act، تخصيص ما يزيد على 600 مليار دولار للإنفاق على العلوم الأساسية، وصناعة أشباه الموصلات، وتكنولوجيا الطاقة النظيفة وغيرها. وقصد من تلك الإجراءات تحفيز رأس المال الخاص والاستثمارات الخارجية. ومن المؤكد أن ذلك أحدث قفزة في الاستثمار بتصنيع أشباه الموصلات وبطاربات المركبات الكهربائية ومجموعة من التكنولوجيات الأخرى.
في المقابل، وضعت واشنطن قيوداً على الابتكار في الولايات المتحدة بما فاق حتى الآن الإيجابيات التي تأتت من الاستثمارات. وقد خفضت ضوابط التصدير الفرص أمام أعمال شركات أميركية في صناعة أشباه الموصلات؛ ويترجم انخفاض العوائد باستثمار أقل في الابتكار والبحوث والتطوير. ومع قيود محددة رافقتها تأثيرات سلبية نجمت عن زيادة التوترات الجيوسياسية؛ انخفضت الفرص والمداخيل بالنسبة للشركات الأميركية.
وأرست وزارة العدل الأميركية قيوداً على التعاون في الدراسات مع الصين، مما أدى إلى هبوط في إنتاجية الدارسين الأميركيين في العلوم والتكنولوجيا. وهناك شطر كبير من علماء الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة يأتي من الصين، ويعني انخفاض أعدادهم هبوطاً في الابتكار داخل الولايات المتحدة، مع إتاحة الفرص أمام آخرين من بينهم الصين للاستفادة من ذلك. وكذلك فرضت واشنطن قيوداً على الطلبة الصينيين ممن يتابعون دراسات ما بعد التخرج في العلوم والتكنولوجيا داخل الولايات المتحدة، فحرمت الجامعات الأميركية من مجموعة كبيرة من الطلبة الموهوبين.
وفيما عززت الحكومة الصينية الحلول المحلية، حاولت الشركات الصينية النأي بمنتجاتها ومنظومات عملها عن التكنولوجيا الأميركية. وثمة إشارات تدل إلى ابتعاد دول أخرى أيضاً عن التقنيات الأميركية، بسبب قلقهم من التعرفات الجمركية العالية والقيود الأخرى.
ومن شأن فرض تعرفات جمركية مرتفعة على المركبات الكهربائية الصينية أن تحمي صناع الآليات الأميركية من المنافسة غير العادلة في الأسعار حيال المستوردات الصينية. وكذلك يفيد حظر السيارات الصينية الذاتية القيادة وتلك المتصلة بالإنترنت، في تخفيض الأخطار على بيانات المستهلكين الأميركيين. وفي المقابل، تترجم تلك الحماية نفسها بعدد أقل من موديلات المركبات الكهربائية الأميركية، واستمرار ارتفاع أسعارها، وإبطاء عملية الانتقال إلى الطاقة النظيفة في مجال النقل والمواصلات، وانخفاض التنافسية العالمية للشركات الأميركية.
إقرأ أيضا : اقتصاد أوروبا بين مطرقة أميركا وسندان الصين
وقد تدفع السياسة الصناعية قدماً بعض الصناعات الناشئة التي لا تملك سبيلاً إلى التطور بغير ذلك. وبالمقدار نفسه، يعني ذلك أن واشنطن سوف تنفق بإسراف على مشروعات ضخمة وراسخة زمنياً لكن مردوديتها ليست مجزية.
ومن المستطاع الدفاع عن بناء كل المصانع الجديدة لإنتاج أشباه الموصلات التي تكلف عدة مليارات من الدولارات، حتى لو جاء ذلك جزئياً على حساب دافع الضرائب الأميركي. ولكن، إذا أخذ بالحسبان التوظيفات الحالية المدعومة من الدول لمصانع إنتاج أشباه الموصلات في البرازيل والصين والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان؛ فالأرجح أن تتوفر قدرات عالمية فائضة في ذلك الإنتاج خلال العقود القليلة المقبلة. وسيعني ذلك أيضاً أن بعضاً من التوظيفات الجارية حاضراً ستغدو ثقلاً غير قابل للاستدامة، مما يؤدي إلى تراكم لسلع غير المباعة في المخازن، وتدن في أداء شركات عدة، وفقدان للوظائف.
ومن ثم، فمن المرجح أن تشهد بضعة قطاعات في الأقل، داخل الولايات المتحدة وحليفاتها، ميلاً متزايداً إلى التشارك مع نظيراتها الصينية، أو ترك زمام القيادة لتلك الأخيرة؛ إذا جرى قياس ذلك ليس بما تنجزه كل تقنية على حدة بل بمدى هيمنة المنظومات التي تصنع التكنولوجيات ومدى انتشار منتجاتها. وعلى رغم أن صعود الصين كمركز قوة في العلوم والتكنولوجيا لم يأت ببساطة كونه نتيجة استجابة للضغوط الغربية، فإن تلك التوترات سرعت على الأرجح ذلك التقدم. وفيما تعمل الشركات الصينية على توسيع أمدية وصولها عالمياً، ستتقلص ضرورة الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية في بعض أرجاء العالم.
الطريق الوسط
لقد حدثت تحسينات عدة في الأمن الاقتصادي الأميركي بفعل سياسة “خفض الخطر” بمعنى خفض الهشاشات والانكشافات، في الولايات المتحدة وحليفاتها، أمام تسريب التكنولوجيا إلى الصين، والاعتماد الزائد على سلاسل الإمداد الصينية، وانعدام أمن البيانات والبنى التحتية الحيوية. وفي المقابل، لقد تولد من ذلك مجموعة من التداعيات الأساسية غير المتوخاة. وإذا اتخذت إدارة ترمب مزيداً من الخطوات الجذرية في الفصل بين اقتصادي الولايات المتحدة والصين، فلسوف يتزايد بروز الوجه الآخر الانحداري في الاقتصاد والأمن الوطني.
ويتوجب على واشنطن اتخاذ خطوات بهدف ضمان أن تستمر الولايات المتحدة في تحقيق اختراقات علمية أساسية في العلوم والتكنولوجيا. وثمة حاجة لأن تلاحظ إدارة ترمب والكونغرس، الحاجة إلى إمكانيات التوازن المتبادل بين أهداف الرخاء الاقتصادي التي تشمل زيادة الابتكار والثروة، وأهداف الأمن الاقتصادي على غرار زيادة المرونة والحماية حيال التسريب التكنولوجي. ويتوجب على الساسة الأميركيين وضع أهداف قابلة للقياس، وإجراء تحليلات عن الكلفة والفائدة في مختلف السيناريوهات والخيارات السياسية، إضافة إلى تقييم دقيق ومتأن للنتائج الفعلية للسياسات المختلفة.
وتحتاج واشنطن إلى ترتيب واضح لأولوياتها مع تعريف الأخطار الأكثر إلحاحاً التي تتطلب استجابة حيالها. وبخلاف ذلك، سوف تنجر الولايات المتحدة إلى لعبة مطاردة الخلد في جحره أو أسوأ من ذلك، محاولة إغلاق كل العلاقات التجارية مع الصين. وإذا تمثل هدف الولايات المتحدة بحرمان الصين من التكنولوجيات الأميركية، فإن المقاربة المستدامة الوحيدة ستتمثل في الانخراط مع الحلفاء ودول أخرى كي لا تجد أميركا نفسها أمام مناورات صينية قد تتخطاها وتخسر القيادة التكنولوجية في بقية أرجاء العالم. إذا انتهجت إدارة ترمب سياسة الانفصال المفرط عن الصين، فالأرجح تماماً أن تأتي النتيجة على هيئة أميركا معزولة، مع زيادة في فقرها وضعفها.
وكذلك ليس من الحكمة أن تتجاهل إدارة ترمب المؤسسات الدولية على غرار “منظمة التجارة العالمية”، لأن ذلك يصعد أرجحية حدوث صراع منفلت. وكبديل من ذلك، يتوجب على الولايات المتحدة أن تكثف التعاون المتعدد الأطراف بهدف وضع مجموعة جديدة من القوانين المتعلقة بالنشاط الاقتصادي العالمي، بغية عدم انجرار السباق التكنولوجي مع الصين إلى الهاوية. وفي بعض الأحيان قد تحتاج أميركا إلى اتخاذ خطوات أحادية بهدف الحفاظ على تفوقها التكنولوجي النسبي. وفي المقابل، ستؤدي الزيادة المفرطة في إجراءات الأمن الاقتصادي إلى خفض الابتكار وإبطاء النمو الاقتصادي، وتدني الأرباح، وتقلص الوظائف. ومن ثم، فمن المستطاع المزاوجة بين سياسات داخلية حكيمة، والتعاون مع الحلفاء، والاستثمار في المؤسسات الدولية كي تحقق الولايات المتحدة الرخاء والأمن معاً.