حركة الاحتجاجات الطلابية التي انتظمت في جامعات أمريكية عريقة كجامعة كولمبيا وهارفرد وغيرهما من أجل مناهضة حرب الإبادة التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية في غزة تعكس لنا أمورًا كثيرة حيال واقع الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، بعكس كثير من الأفكار الانطباعية عن أمريكا؛ تلك التي يروج لها في العالم العربي بعض المؤدلجين من اليسار وشعبويي الإسلاميين.
ومن ذلك؛ الأدلجة التي يعممها هؤلاء والتي مفادها أن الشعب الأمريكي شعب كله موجه بالإعلام، وأن اللوبي الصهيوني يتحكم في توجيه كافة الأوساط الفكرية والثقافية والطلابية في الولايات المتحدة.
لكن ما غاب عن أولئك الآيدلوجيين والشعبويين هو أن الحراك الطلابي هذا قام بالأساس من وسط لمجتمع معرفة ينتمي إلى مؤسسات تحترم حرية المعرفة والبحث واستقلالية المواطن التي يكفلها دستور الولايات المتحدة، وأمر كهذا سيعني الكثير الذي يحدث الفرق في ظل التفاعل الذي بدا واضحًا اليوم بين ردود فعل مجتمعات العالم حيال ما يجري في غزة بسبب التواصل الذي وفرته السوشيال ميديا.
وبطبيعة الحال رأينا كذلك حراكًا جد بين الطلبة في جامعة السوربون، ونعتقد أن هذا الحراك الذي أصبح اليوم في الوسط الطلابي بالولايات المتحدة شبيهًا بالاحتجاجات الشعبية الضخمة التي عمت أمريكا إثر مقتل المواطن الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد، قبل ثلاث سنوات، سيكون له تواصل وامتداد في العديد من جامعات العالم الحر، بحيث يصبح ظاهرة دالة بوضوح على الحيوية التي تكمن في المجتمعات الحرة وبحيث يمكننا القول أنه بالرغم من التحكم في صناعة الخطاب الإعلامي المؤسسي وتأثيره الكبير في توجيه آراء الناس في الولايات المتحدة والعالم إلا أن حدة التناقضات المكشوفة في السلوك الهمجي لحكومة نتانياهو، وهي تقتل أكثر من 35 ألفًا من النساء والأطفال والمدنيين وتدمر مدينة غزة على رؤوس أهلها، أصبحت اليوم بمثابة تناقضات لا يقبلها العالم مهما كانت التبريرات التي تسوقها الإدارة الأمريكية في دفاعها عن إسرائيل.
صحيح أن تأثير الإعلام الأمريكي قوي جدًا، وأن الحراك الطلابي في النهاية هو حراك سلمي ليست له أدوات ضغط غير الاحتجاج والتظاهر، لكن من ناحية ثانية تكمن القوة الأخلاقية – التي هي أكبر عامل تروج لخطاب الحراك الطلابي – في عدالة ما ينادي به هؤلاء الطلبة من تضامن إنساني مع غزة، وهو تضامن يزداد يومًا بعد يوم في الكثير من جامعات العالم.
هذا الاحتجاج لن يكون بلا أثر في الفضاء العام وحتى في الفضاء الإعلامي المؤثر في الولايات المتحدة، لكن ربما كانت أكبر تجليات تأثيره هي في الانتخابات الأمريكية القادمة. وهي تجليات ربما تنتج مفارقة عجيبة، تكمن في الطبيعة الثنائية للانتخابات الأمريكية تلك التي ستكون نتيجتها (حال تأثير الاحتجاج الطلابي على الشعب الأمريكي وعدم إعادة انتخاب الرئيس بايدن لدورة ثانية) إعادة انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب، ووجه المفارقة هنا هو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو ينتظر بفارغ الصبر نتيجة الانتخابات الأمريكية ويتمنى فوز ترامب في تلك الانتخابات!
على كل حال، لن تتوقف هذه الاحتجاجات الطلابية حتى إذا أسفرت نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة عن إعادة ترشيح ترامب وصار الوضع على ما هو عليه اليوم وأسوأ، فتجاوز هذه الاحتجاجات الطلابية الجسورة للولايات المتحدة وتحولها قريبًا إلى تيار عام عالمي في جامعات كثيرة من العالم سيخلق لها أثرًا مهمًا.
إن درس الاحتجاج الطلابي اليوم في الولايات المتحدة والذي يأتي كانشقاق حر عن التيار العام للمجتمع السياسي والإعلامي بالولايات المتحدة، تكمن حكمته الأولى في القيمة الجوهرية لحرية المعرفة وحرية الرأي التي لا يمكن أبدًا الالتفاف عليهما حتى من قبل أعتى المؤسسات الصحافية والإمبراطوريات الإعلامية في أمريكا.
ذلك أن الحرية حين تقترن بالمعرفة – وليس هناك من وسط يمكنه تمثل هاتين القيميتين كالوسط الطلابي في الجامعات الأمريكية – فإن القدرة على مقاومة الخطاب الإعلامي والسياسي المضلل في الولايات المتحدة ستكون هي التعبير الأكثر جرأة وهو ما تجلى تمامًا اليوم في هذا الحراك الطلابي بجامعات أمريكا.
وكم بدا التناقض واضحا اليوم حين وجه نواب ديمقراطيون في الكونجرس بإزالة مخيمات الطلبة السلمية في صورة بدت أكثر من دالة على مدى الحرج الذي تضع فيه حكومة نتانياهو أنصارها من النواب الديمقراطيين الأمريكيين، وهو وضع لا يحسدون عليه.