رسالة وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري يوسف بلمهدي حملت عدة دلالات حول طمأنة الأطراف الخارجية بشأن وضع الحريات الدينية في البلاد واحترامها للتشريعات الدولية الضامنة لحقوق الأفراد في مجال التدين. غير أن بقاء بعض الخطابات الخلافية في سرديات السلطة يشير إلى أن المسألة ليست بالسلاسة التي يتمناها وزير الشؤون الدينية.
ويبدو أن القيادة السياسية التي دخلت في مناكفات مع أطراف إقليمية ودولية تريد إقناع شركائها بأن الخلافات السياسية والدبلوماسية لا تشكل خيارا شاملا في مواقف الدولة، ولها مسوغاتها وخلفياتها. وتستدل على ذلك بخطابها الناعم تجاه الحريات الدينية المضمونة لجميع الأفراد، وهي محاولة لتبديد الصورة التي تكونت للمؤسسات الحاكمة والرأي العام في المنطقة والعالم عموما.
وضع الجزائر في مجال الحريات الدينية لم يكن مطمئنا منذ سنوات، حيث أبدت الحكومة لغة حادة وإجراءات صارمة تجاه ما كان يوصف بـ“حملات التبشير” في منطقة القبائل، وحتى الطائفتان “الكركرية” و“الأحمدية” الإسلاميتان لم تسلما من الردع والتفكيك، الأمر الذي كلفها ملاحظات وتوصيات في العديد من التقارير الدولية.
ورغم أن التشريع الرسمي المنظم للنشاط الديني كفل للفئات غير المسلمة حرية المعتقد، إلا أن الالتباس بين توظيف الدين لأغراض غير دينية واستهداف التماسك والوحدة الاجتماعية أبقى مسافة فاصلة بين خطاب التسامح وبين مبادئ السيادة والأمن الديني، خاصة في ظل تجربة العشرية الدموية (1990 – 2000) وإفرازات التنظيمات الجهادية في بعض الدول العربية والإسلامية.
خطاب التسامح الذي ألقاه وزير الشؤون الدينية أمام رموز الكنيسة والسفراء وممثلي مختلف الديانات لا يزال يمثل سرديات سياسية ورسائل طمأنة لشركاء الخارج وللمنظمات الدولية، لأن الواقع يوحي بعكس ذلك تماما. فالتطرف والأحادية يخيمان على تفكير المجتمع إلى درجة تهديد التماسك الاجتماعي المذكور.
أثناء السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، تحول غلق بعض الكنائس ودور العبادة غير الإسلامية في بعض مدن منطقة القبائل إلى استقطاب حاد بين أنصار الحريات الدينية والديمقراطية وبين التيار المحافظ، وتحول إلى سجال حول الهوية والانتماء.
ومنذ أيام قليلة، تحول تمثال “أكسيل”، القائد الأمازيغي، إلى سجال هوياتي متجدد بين التيار البربري المتجذر وبين العروبيين والإسلاميين، وبين الإبقاء على التمثال الأصم في مكانه وبين رفعه من مدينة خنشلة إلى وجهة أخرى. تبادل الطرفان الخلفية الدينية للرجل، بين من يراه قاتل القائد الإسلامي الفاتح عقبة بن نافع، وبين من رآه مسلما مرتدا وجب قتله ولا مجال للاحتفاء به كرمز تاريخي للجزائريين.
مثل هذا الخطاب يتجدد في كل مناسبة، عاكسا حالة من الاحتقان الاجتماعي الداخلي، وهو أولوية يتوجب التوقف عندها قبل أن يتحول إلى مصدر ضعف مزمن، وبنفس الأهمية التي توليها السلطة لإطلاق رسائل الطمأنة الدينية لشركائها الخارجيين.
العديد من المبادئ والأفكار تلتبس مع الجانب الديني، على غرار الأمن الديني والاجتماعي والسيادة الوطنية والمخاطر الخارجية والتاريخ والاستعمار، لكن الوصفة الحقيقية والناجعة هي التي تستطيع تسويق موقف التسامح الديني والحريات الدينية لجميع الأفراد، بعيدا عن الاهتمامات الأخرى.
إقرأ أيضا : سوناطراك الجزائرية: عائد برميل مصنع أفضل من برميل يصدر خاما
المتلقي الأول لرسالة وزير الشؤون الدينية هو الولايات المتحدة، التي أوفدت منذ أيام قليلة مساعدة وزير الخارجية المكلفة بشؤون الأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان أوزرا زيا، في إطار جولة قادتها إلى منطقة شمال أفريقيا.
وهي الزيارة التي أدرجها بيان الخارجية الأميركية في خانة دعم واشنطن للحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الدين أو المعتقد، وحرية التعبير، وإدارة الهجرة بشكل آمن ومنظم وإنساني، فضلا عن مكافحة الاتجار بالبشر، وتعزيز التعاون في مكافحة المخدرات في جميع أنحاء المنطقة.
ومن دون التكلف في ما جرى بين المسؤولة الأميركية ونظرائها في الجزائر، فإن رسائل الوزير يوسف بلمهدي هي صوت يتعدى حدود القطاع إلى الموقف الرسمي للقيادة السياسية العليا. فالجزائر التي ارتبكت علاقاتها مع شركائها التقليديين في المدة الأخيرة، تريد التفاعل إيجابيا مع التصور الأميركي في هذا المجال.
ودليل ذلك أن المسألة لم تكن اختصاص أو وصاية وزارة الشؤون الدينية فقط، بل ظلت محل اهتمام الجهاز الدبلوماسي، حيث سبق للجزائر أن عبرت على لسان وزير خارجيتها عن امتعاضها من تصنيف تقرير أميركي لها في لائحة المراقبة الخاصة، مستندا في ذلك على شكاوى أفراد مسيحيين من صعوبات يواجهونها في الجزائر من أجل فتح فضاءات للعبادة، بينما تتمسك الحكومة الجزائرية بتقنين وضبط العملية.
الخطاب الجزائري الذي يعتقد أن تبني اللبس بين الحريات الدينية والأفكار المتصلة بها سيمكن من إقناع الآخرين بالتنظيم المتبع في هذا المجال، لاسيما في ما يتعلق بتوجيه الحريات الدينية كما يتم توجيه المؤسسات الدينية الإسلامية، أو تبرير إخضاع القطاع لسلطة الوصاية، سيبقى دون مبتغاه لأن المسألة تتطلب خطابا بسيطا ومباشرا فقط لتحقيق أهدافه.