غزة

جولة في شوارع غزة… أطفال يعملون تحت القصف لإعالة عائلاتهم

أمام ساحة مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة، حيث يتكدّس النازحون، كان يجلس الطفل محمود خلف (9 سنوات) أمام بسطة صغيرة لبيع المسليّات.

بملامح منهكة، لكن مع ابتسامة صغيرة ستجذب زبائنه وتضيف ليومه قيمة ما تساعده في إعانة عائلته التي نزحت من منطقة الشيخ رضوان شمال غزة إلى دير البلح.

يخرج محمود يومياً، منذ ثمانية شهور، مع شروق الشمس حتى غروبها، ليجني نحو 20 شيكلاً يومياً (ما يعادل 5 دولارات) لشراء بعض الاحتياجات الأساسية للعائلة.

“في مثل هذا الوقت من كل عام، يقضي محمود إجازته بعد انتهاء الدراسة. كانت أوقاتاً جميلة يتشارك فيها مع أصدقائه وعائلته الرحلات وصناعة الطائرات الورقية التي يتنافس بها مع أشقائه، ويشاهد أفلامه المحببة في المنزل بهدوء”، تقول والدته الأربعينية سماح أبو شرخ .

لكن حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة، نزعت من محمود ومئات آلاف الأطفال في قطاع غزة الحق في الأمان والدراسة والحياة الكريمة، فأجبرته وأجبرت كثيرين على العمل، سيما أولئك الذين فقدوا معيل العائلة أو الوالدين.

ففي الوقت الذي فقد فيه البالغون في غزة أكثر من 90% من وظائفهم، وفق بيانات الإحصاء الفلسطيني، يُدفع الأطفال باتجاه العمل، إضافة إلى الأعباء اليومية التي تُلقى على أكتافهم جراء النزوح والتشرد.

هم الذين يحملون غالونات المياه ويصطفون في الطوابير، ويحملونها معبّأة لمسافات طويلة. وهم الذين ينتظرون حصص الطعام، ويحملون مع عائلاتهم متاع النزوح الثقيلة، في الوقت الذي يتحضر فيه أطفال العالم للسنة الدراسية الجديدة.

محمود يقف خلف بسطة لبيع المسليات

أجساد صغيرة تحت الشمس

كان محمود يقضي معظم وقته في بيت جده، يلعب مع أولاد أعمامه. لكن الجيش الإسرائيلي قصف المنزل، فنزحت عائلته إلى الجنوب.

“تركنا كل شيء وراءنا. حتى المال لم نأخذه معنا. اعتقدنا أننا سننزح يومين. لكن النزوح طال وأصبحت المعيشة قاسية. فاقترحنا على محمود أن يلجأ للبيع حتى يساعدنا بعد أن فقد والده عمله”، تقول الوالدة سماح.

وتؤكد على أن جسده الصغير لا يحتمل التعب والعمل تحت أشعة الشمس الحارقة. “لكننا مضطرون لعمل محمود. فالبيع هي الوسيلة الوحيدة المتاحة في هذه الحرب”، تضيف سماح.

هم الذين يحملون غالونات المياه ويصطفون في الطوابير، ويحملونها معبّأة لمسافات طويلة. وهم الذين ينتظرون حصص الطعام، ويحملون مع عائلاتهم متاع النزوح الثقيلة

ولا تكاد تخلو مخيمات النازحين وشوارع غزة المدمرة وساحات المشافي من أصوات الأطفال الذين ينادون الزبائن ويتنافسون على البيع، فتختلط أصواتهم بأصوات الانفجارات وأزيز الطائرات الحربية الإسرائيلية، لكنهم يخاطرون من أجل لقمة العيش.

تؤكد ليلى سالم، الاختصاصية في حماية الأسرة والطفولة، على أن ظروف الحرب والنزوح أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في غزة، وحرمان الأهالي من وظائفهم التي كانت تؤمن حياتهم الأسرية قبل الحرب، سيما من كان يعمل ضمن الأعمال التي لا تصنف ضمن القطاع الحكومي والمؤسساتي. ولا يخفى على أحد أن الكثير من المؤسسات الأهلية سرحت عمالها لتوقف التمويل عنها. ودمّر قطاعات كثيرة كالقطاع الصناعي، بأكملها جراء القصف.

“لم يعد لرب الأسرة مصدر دخل شهري ينفق منه على أبنائه،، فيدفع بهم إلى العمل”، تقول سالم.

هل تتحمّل الأسر المسؤولية؟

على بعد أمتار قليلة من محمود، يقف مهند سليم (13 عاماً). أجبرته ظروف عائلته ورحلة النزوح على العمل في بيع الحلويات.

يبيع مهند “أصابع زينب” التي تعدها والدته. فيتجول بها في مخيم دير البلح وأمام مستشفى شهداء الأقصى المزدحم بالنازحين. ويقف لساعات حتى أواخر النهار، بملامح متعبة وجسد نحيل وصوت منحفض.

“يعود مهند كل يوم إلى الخيمة بعد يوم عمل طويل ومرهق جداً. يرمي بجسده على الأرض وينام فوراً. ليستيقظ في اليوم التالي للعمل من جديد”، يقول والد مهند .

ويردف: “أعلم أن الحياة تبدو قاسية جداً بالنسبة له. لكننا مضطرون لذلك، حتى نتمكن من تأمين مصروف يومي لنا. وعادة ما أخرج معه إلى السوق لمساعدته في البيع”.

يوضح الأب بأن كثيرين من الأطفال الغزيين باتوا يعملون في السوق. فلا مدارس ولا مساحات عامة يذهبون إليها. ويؤكد على أنه يشجع طفله للعمل حتى يشعر بالمسؤولية.

“أتمنى أن تنتهي الحرب ونعود لحياتنا الطبيعية. ويعيش مهند حياة يمارس فيها هوايته المفضلة وهي كرة القدم، فهو يحلم بأن يصبح لاعباً مشهوراً”، يضيف الوالد.

مهند سليم يبيع الحلويات في السوق

قبل الحرب كانت تشكل نسبة عمالة الأطفال في غزة (سواء بأجر أو دون أجر) حوالي 1% من إجمالي عدد الأطفال في الفئة العمرية (10-17 سنة) خلال عام 2022.

كما أشارت البيانات الى أن 53% من الأطفال (10-17 سنة) المشتغلين في فلسطين هم مستخدمون بأجر، فيما بلغت نسبة العاملين غير المدفوعي الأجر 37%.

تقول ليلى سالم، الاختصاصية في حماية الأسرة والطفولة، : إن عمالة الأطفال تطورت خلال هذه الحرب، فارتفعت بشكل مهول عن السنوات السابقة، كون الأطفال فقدوا منازلهم ومدارسهم. وبعضهم فقد أهله، فلم يعد يجد من يعيله، ليضطر لإعالة نفسه وتحمل أعبائه وأعباء أسرته في سن صغيرة.

“ثمة عدد لا بأس به من الأسر التي تدفع أطفالها للعمل بحجة أن الطفل لا يعمل شيئاً طيلة النهار. فيخرج الطفل ويعود في المساء دون أن تعلم عنه العائلة أي شيء، في ظل ظروف الحرب الخطرة والفوضى وانعدام الأمان”، تضيف سالم.

وترى بأن لعمالة الأطفال تأثير سلبي على سلوك الطفل واكتسابه أطباعاً غير أطباعه. وفي حال فتحت المدارس أبوابها، قد يرفض العودة لأنه اعتاد على العمل وأصبح بنظر نفسه شاباً مسؤولاً.

“وقد يتعرض هؤلاء الأطفال للتحرش أيضاً. ما يدلل على حرمانهم من الرعاية الأسرية والاجتماعية والنفسية وممارسة حقهم كأطفال. هؤلاء بحاجة لمن يوفر لهم مصروفهم وليس العكس”، تؤكد سالم.

ثمة عدد لا بأس به من الأسر التي تدفع أطفالها للعمل بحجة أن الطفل لا يعمل شيئاً طيلة النهار. فيخرج الطفل ويعود في السماء دون أن تعلم عنه العائلة أي شيء

“يصعب علينا أن تعيلنا طفلة لكنّا مجبرون”

نزحت الطفلة مها السرسك (14 عاماً) قبل 9 شهور من شمال غزة إلى رفح. وبعد اجتياح الجيش الإسرائيلي للمدينة، حملت عائلتها أمتعتها وخيمتها البسيطة المصنوعة من قماش مهترئ ونزحت إلى دير البلح وسط القطاع.

أجبرت ظروف الحرب والنزوح القاسية، الطفلة مها وأمها هدى السرسك (50 عاماً) للعمل من أجل إعالة العائلة، التي تضم شقيقتان معوقتان تحتاجان لعلاج ورعاية دائمة، وتوفير الماد الغذائية في ظل غلاء مجنون للأسعار.

“في بداية رحلة النزوح في فصل الشتاء الماضي، كانت تبيع مها الخبز وتجني 2 شيكل مقابل كل كيس من الخبز (ما يعادل نصف دولار)”، تقول الأم هدى.

وتتابع: “كانت تنتظر أمام طوابير مخابز مدينة رفح منذ الصباح الباكر حتى المساء. فتحصل على الخبز بعد طول انتظار وشقاء. ولا تعود إلى الخيمة إلا بعد بيع جميع أكياس الخبز التي حصلت عليها”.

وبعد ثلاثة شهور من العمل في بيع الخبز، شعرت مها بآلام شديدة في جسدها، فمكثت في الفراش فترة طويلة. “لا تتحمل بنية جسدها كل هذا. لكن العوز أكبر من قدرتنا وطاقتنا”، تقول هدى.

مها السرسك وهي تعمل في تنظيف الملابس

توقفت مها عن العمل لفترة قصيرة، لكن نفسها لم تطاوعها حين كانت تُشاهد إحدى شقيقاتها المصابة بالتوحد، وهي تبكي من الجوع.

فقررت العودة إلى العمل في تعبئة غالونات المياه والاصطفاف في طابور طويل في انتظارها، من أجل توفير علاج وطعام لشقيقتيها، حسبما تقول الأم.

“كنت أوقظها يومياً عند السادسة صباحاً. ثم تذهب لتنتظر دورها لتعبئة المياه. ثم تتجول فيها لبيعها في مخيمات النزوح حتى آخر النهار، مقابل مبالغ زهيدة تساعدنا في توفير الطعام”، تضيف هدى.

ظلت الطفلة مها مستمرة في عملها الشاق حتى نزحت مع عائلتها مؤخراً إلى دير البلح. وهناك بدأت تعمل مع والدتها في تنظيف ملابس النازحين.

تغسل الأم وابنتها الملابس يدوياً، تنظفانها وتعلقانها حتى تجف، ثم تُطوى وتُعاد إلى أصحابها.

“يصعب علينا كعائلة أن تُعيلنا طفلة. لكن ظروف الحرب القاسية أجبرتنا على ذلك. يحق لمها أن تكون مرتاحة في منزلها، وأن تلعب مع صديقاتها، وتتوفر جميع احتياجاتها”، تؤكد هدى.

وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، فإن قطاع غزة صُنّف على أنه المكان الأخطر على الأطفال في العالم. إذ يشكلون نسبة 47.1٪ من مجمل سكان القطاع. وهذا ما يُفسر سبب استشهاد وإصابة هذا العدد الكبير من الأطفال جراء الاستهدافات الإسرائيلية.

توقفت مها عن العمل لفترة قصيرة، لكن نفسها لم تطاوعها حين كانت تُشاهد إحدى شقيقاتها المصابة بالتوحد، وهي تبكي من الجوع

ولا يُعلم كيف ستعود حياة هؤلاء إلى طبيعتها، في ظل استمرار الحرب والمحو الإسرائيلي لكل مقومات الحياة الاجتماعية والتعليمية والمدنية في قطاع غزة.

وتابعت  أن نعدد لا بأس به من الأسر هي من تدفع أطفالها للعمل بحجة أنه لا يعمل شيئا فيخرج طيلة النهار، ويعود في المساء دون أن تعلم عنه شيء، لا سيما في ظل ظروف الحرب الخطرة والفوضى وانعدام الأمن والأمان.

ولفتت على أنه عمالة الأطفال لها تأثير سلبي على سلوكه واكتسابه أطباع غير أطباعه، كالعدوانية، وفي حال أعتاد المدارس أبوابها قد يرفض العودة لأنه اعتداد على العمل وترك العمل، يعتقد أن أصبح شابا ومسؤولا، وقد يعرضه للتحرش وبالتالي سيؤثر على نفسيته سلبيا وحرمانه من الرعاية الأسرية والاجتماعية والنفسية وممارسة حقه طفل بحاجة لمن يوفر له مصروفه وليس العكس.

نقلا عن رصيف 22

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى