في مخيم جنين، المشهد يبدو كابوسياً. عشرات المباني تحولت إلى أنقاض، السكان في حالة من الهلع، البنية التحتية دُمرت، والنتيجة كما هي دائماً: المدنيون هم الضحية الكبرى في هذه الدوامة المستمرة من العنف.
وبينما تتحمل إسرائيل المسؤولية الكبرى عن سياسة العقاب الجماعي، لا يمكن في الوقت ذاته إعفاء الفصائل الفلسطينية المسلحة التي تفرض سطوتها على المخيم، متجاوزة السلطة الفلسطينية، ومُعرِّضة السكان لخطر دائم.
إسرائيل لا تتوانى عن استخدام القوة المفرطة في تعاملها مع الفلسطينيين، خصوصاً في الضفة الغربية، حيث تحولت المدن والمخيمات إلى ساحات معارك غير متكافئة. العملية الأخيرة في جنين، التي دمرت أكثر من 20 مبنى بزعم احتوائها على متفجرات، هي مثال جديد على نهج العقاب الجماعي الذي ينتهجه الاحتلال، متجاهلاً حقيقة أن من يدفع الثمن هم السكان الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالمقاومة المسلحة.
هذا السلوك الإسرائيلي ليس جديداً، بل هو جزء من استراتيجية تهدف إلى تفريغ المخيمات من سكانها، وفرض معادلة الخوف والردع. إسرائيل تعلم جيداً أن التصعيد يولّد الغضب، لكنها تواصل عملياتها العسكرية، غير عابئة بنداءات المجتمع الدولي أو التداعيات الإنسانية لهذه الحملات.
لكن في مقابل الاحتلال الذي يُمارس العنف المنظم، هناك جماعات مسلحة فلسطينية تدّعي المقاومة، لكنها في كثير من الأحيان تُساهم في تعقيد المشهد. عندما تتحول بعض هذه الفصائل إلى ميليشيات منفلتة خارجة عن سيطرة السلطة الفلسطينية، وتفرض أجنداتها الخاصة على المخيمات، فهي بذلك لا تُقاوم الاحتلال بقدر ما تُساهم في خلق بيئة فوضوية تمنح إسرائيل الذريعة لمزيد من الهجمات.
اقرأ أيضا: الطريق نحو الصمود أمام التهجير والمخططات الإسرائيلية
هذه الفصائل، بدل أن تكون جزءًا من مشروع وطني موحّد، أصبحت تمارس نشاطها دون أي استراتيجية واضحة، ما يُعرض المدنيين للخطر المباشر. ليس من الحكمة إطلاق النار عشوائياً أو نصب الكمائن في مناطق سكنية مكتظة، ثم ترك السكان يواجهون وحدهم انتقام الاحتلال الوحشي. كما أن فرض سطوة السلاح على المدنيين، واستغلالهم كدروع بشرية، لا يخدم القضية الفلسطينية، بل يُعطي إسرائيل المسوغ لمواصلة جرائمها دون مساءلة حقيقية.
أما السلطة الفلسطينية، فقد ألقت أوضاعها السياسية والإقتصادية بظلالها على أداءها وهو ماجعلها تكابد من أجل عن فرض الأمن والقانون وهو جعل الفصائل تستغل الفراغ وتتحول إلى قوة أمر واقع، وهو ما يُضعف المشروع الوطني الفلسطيني ككل. السلطة، رغم ضعفها، مطالبة باتخاذ خطوات جادة لاستعادة دورها، سواء من خلال إصلاح أجهزتها الأمنية أو فرض سيطرتها على المخيمات، لمنع إسرائيل من التذرع بـ”غياب الشريك الفلسطيني” كلما قررت شن حملة عسكرية جديدة.
في النهاية، يبقى المواطن الفلسطيني العادي هو الضحية الحقيقية لهذا الصراع بين الاحتلال والفصائل المسلحة الخارجة عن القانون. إسرائيل تتحمل المسؤولية الكبرى، لكنها تجد في فوضى السلاح الفلسطيني تبريراً لجرائمها. وبينما يُصرّ البعض على معادلة “المقاومة بأي ثمن”، فإن الواقع يقول إن الثمن دائماً ما يدفعه الأبرياء وحدهم.
لقد آن الأوان لوقفة فلسطينية مسؤولة، تضع مصلحة الشعب فوق الحسابات الفصائلية الضيقة. المقاومة الحقيقية لا تكون بالعشوائية والفوضى، بل برؤية وطنية موحدة تُدير الصراع بحكمة وتُجنّب المدنيين ويلات الانتقام الإسرائيلي. أما الاحتلال، فسيظل هو العدو الأول، لكن يجب ألّا نسمح لأنفسنا بأن نكون وقوده في معركة لا تُدار بوعي ومسؤولية.