تونس

تونس التي يريدها “التوانسة”

لكن ما حصل يوم 25 يوليو 2021 ويصفه معارضون لقيس سعيد بـ”الانقلاب” هو مرحلة تصحيح فعلية كان يجب أن تحصل. لحظة إعجاز في كيفية التحرّك والقرار

تونس التي يريدها “التوانسة” الذين ذاقوا مختلف العذابات بعد انهيار نظام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في 2011 وما خلفه من ارتدادات، تكاد تكون في تضاد تام مع ما تشتهيها أقلية همّها الوحيد السير عكس التيار والعودة بالبلاد إلى الوراء نكاية في اختيارات “شعب يريد” وليس تأصيلاً لمسار سياسي بديل، إن وجد.

البحث في أصل الداء يقود حتماً إلى حلول لتشخيص المرض ومعالجته، لكن أحياناً ما يصبح المرض عضالاً يستعصي تشخيصه، لذلك من المفيد العمل وفق ما ردّده أجدادنا من أن “آخر الطب الكيّ”. المعارضة في تونس ينطبق عليها هذا المثل.

تتبنّى المعارضة، أو من يوهمون أنفسهم بمحاولة الوقوف ضد المسار السياسي الذي وضع أسسه الرئيس قيس سعيد، مقاربات وهوامش لا تفرّق بين مفهوم الدولة الحقيقي ككيان وجب الحفاظ عليه والعمل على ديمومته بما يحقق طموح الأجيال الحالية والقادمة وتطلعاتها، وبين الدفاع عن المصالح الشخصية الضيقة لاعتبارات براغماتية لا تراعي حدود الممكن في دولة لها تاريخ كبير.

المعارضة التي توحدت حول كل شيء، إلا على مصلحة تونس، ترى في الانتخابات الرئاسية فرصة للعودة إلى المشهد السياسي. لكن وفق أيّ أجندة وأيّ برنامج انتخابي؟ فقط ما يهم هو خوض السباق الانتخابي بأسماء لفظها الشعب وقال فيها كلمته منذ سنين سواء اليساري منها أو العلماني أو القومي أو الإسلامي.

لم تستوعب المعارضة التونسية الدرس من انتخابات 2019 التي طغت فيها الحسابات السياسية على حساب المصلحة العليا للوطن. شاءت الأقدار حينها أن يكون من بين المرشحين مرشح مستقل راهن عليه الشعب واختاره ليكون على رأس السلطة.

كان الرهان صائباً حين ترشح للدور الثاني الرئيس قيس سعيد الذي حسمت نتائج الانتخابات لفائدته ضد نبيل القروي المرشح على حزب “قلب تونس”. لحظة حاسمة انتفت فيها القناعات والآراء حول من يكون مع الدولة ومن يكون ضدها. رغم أن الكل راهن وتوحد في التصويت لفائدة الرئيس سعيد بما في ذلك الأحزاب التي كانت في الحكم (حركة النهضة تحديداً بقاعدتها الشعبية).

من المهم التذكير لمن نسوا أو تناسوا تلك المرحلة الحرجة التي مرّت بها تونس. لا آفاق مستقبلية لدولة منهكة بالديون واقتصاد يعاني من تبعات الأحداث الإرهابية التي عاشتها البلاد على مرّ عشر سنوات من تتالي الحكومات بمسمّياتها المختلفة (حكومة إسلامية نسبة إلى حركة النهضة، حكومة وحدة وطنية، حكومة تكنوقراط…). لا أسس واضحة لمسار سياسي يراعي مصلحة الدولة مع شركائها سواء في المغرب العربي أو في أفريقيا أو في العالم. مناخ اجتماعي متوتر تطغى عليه عقلية الانتهازية والمصالح الضيقة لطبقة سياسية أقل ما يمكن وصفها بالمعارضة المراهقة تراهن على تصيد الزلات والهنات وآخر همها هو مصلحة الدولة وهيبتها بين الأمم.

الكل قفزوا من المركب تاركين وراءهم دولة تغرق في أزماتها التي تباينت بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي. يضاف إلى كل ذلك حزمة الديون الخارجية التي زادت الحمل وأرّقت كل من ينوي أو يفكر في تحمل المسؤولية في تلك الفترة. وكأن الكل دفع في اتجاه أن فتح الباب أمام شخصية من خارج المشهد السياسي التونسي، وهو ما تم بالفعل، من أجل التحكم فيها وتطويعها خدمة لمشروع اللادولة.

لكن ما حصل يوم 25 يوليو 2021 ويصفه معارضون لقيس سعيد بـ”الانقلاب” هو مرحلة تصحيح فعلية كان يجب أن تحصل. لحظة إعجاز في كيفية التحرّك والقرار، والأهم من ذلك الترتيبات التي تلت تلك الفترة باركها “التوانسة” ووقفوا إلى جانبها لأنها كانت عفوية وفي الآن ذاته مدروسة وتنمّ عن تفكير عميق ومسؤولية كبيرة.

في الطرف المقابل ركبت المعارضة ومختلف الأحزاب المناهضة لقرار الإصلاح موجة التخوين ومحاولة إضعاف الدولة من الداخل. لم يكن الاتحاد العام التونسي للشغل بمعزل عن هذا الاتجاه واختار الوقوف في منزلة بين المنزلتين، المعارضة ومحاولة التماهي مع السلطة، العودة للمعارضة من جديد. ليختار الآن الدخول في مرحلة حرجة يصعب عليه الخروج منها مستقبلاً. اختار التصعيد في الوقت والزمن الغلط. الموعد الانتخابي في تونس أوهم الكثيرين بأنه فترة فراغ للتحرك. المعارضة عادت لتنبش في الماضي وتطرح سجالات من هذا النوع أو ذاك. الاتحاد وبعد فترة سبات طويل يجد في الفترة التي يتركّز فيها الاهتمام على الاستحقاق الانتخابي خير موعد له للعودة إلى المشهد. لكن هذه المرة اختار صف المعارضة علناً. وهو يدرك أن الدور آت عليه لا محالة.

إقرأ أيضا : ترامب – هاريس..مناظرة التوك شو!

قرصة الأذن التي فرضها الرئيس قيس سعيد على المنظمة النقابية بأن قلص دورها وخصص لها إطاراً واضحاً تنشط فيه لا يتجاوز الدور النقابي مع عدم الاقتراب من المربع السياسي، لم تثن الاتحاد عن القيام بالمراجعة واختيار ما يراه مناسباً لمستقبله ومستقبل منظوريه. في الأثناء بدا الانقسام جلياً بخصوص شق يقول مراقبون إنه يبارك مسار التصحيح الذي رسمه الرئيس سعيد ويريد الذهاب فيه إلى النهاية. لكن مشكلة الاتحاد تبدو مع القيادات التقليدية التي تريد الصدام وتذهب في خوضه لأنها تدرك أن زمن المحاسبة قد اقترب خصوصاً أن كل المؤشرات والدلائل توحي باتجاه قيس سعيد للفوز بفترة رئاسية ثانية.

تونس التي يريدها “التوانسة” ويتفاعلون معها إيجاباً هي تونس التي تمر بمرحلة علاج من كل الأورام وآن الأوان لكي تفتح كل جروحها للتنظيف والتداوي، وليست تونس كما يشتهيها “أعداء الوطن” خاضعة، راضية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى