تقفز إلى مخيلة كل تونسي غيور على بلاده أمثلة عديدة تعكس أهمية هذه الأرض وجدارتها بأن تكون ذات قُدسية كبيرة مهما حاول الكثيرون طمس معالمها وإعادتها إلى الوراء.
من هذه الأمثلة الراسخة التي يرددها التونسيون كثيرا وتبقى متداولة في معجمهم اليومي مهما ابتعدوا وهاجروا وتنقلوا بين أرض المعمورة “تونس الخضراء يا مهد السلام” و”تونس درة المتوسط” وغيرها من الأوصاف التي تغنوا بها ورددوها دفاعا عن وطنهم.
لستُ ممن يتغنون بمحاسن الوطن كناية بشعوب هُجّرت واغتربت وأسرت أو أخرى تمزقها أهوال الصراعات والحروب وفاقة يستحيل معها العيش، لكن لأن تونس أريد لها ألا تكون فكانت.
تونس كانت عبر تاريخها الطويل أرض الحضارات التي تعاقبت عليها وامتدّت على ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة، شهدت خلالها عصورا بونيّة ورومانيّة ووندالية وبيزنطية وعربية – إسلامية وعثمانية وحسينية ليتلوها زمن الحماية الفرنسية قبل أن تنال البلاد استقلالها في عام 1956.
تاريخ طويل من الجهد البشري في الأرض والمسارات التي نجح الكثير منها وفشل الآخر ولا تزال الأرض تكتنز بداخلها ثروات شتى وسلالات متنوعة من بني البشر وصنوفا عدة من العادات والتقاليد التي يسعى التونسيون لإحيائها في مناسباتهم الخاصة والعامة.
يُحسب للزعيم الأكبر الحبيب بورقيبة باني الدولة الحديثة ومؤسسها وأول رئيس لتونس بعد حصولها على الاستقلال، أنه كرس حياته لخدمة بلده وشعبه، فراهن على التعليم وكسب الرهان. كما يُحسب لبورقيبة نظرته الثاقبة وتصوره المثالي لتونس المستقبل، فكان أن حارب الجهل والأمية برفع تحدي العلم والتنوير لأجيال لا يزل نسلها يخلق ويبدع إلى اليوم.
الرهان الأبرز لبورقيبة كان بإصدار مجلة الأحوال الشخصية في 13 أغسطس 1956 التي كانت نقطة تحول للمجتمع التونسي. دعا فيها إلى عدم تقييد حرية المرأة وإخراجها من طور الظلام إلى النور ومنحها حريتها كاملة دون قيد أو شرط في الزواج والطلاق وغيرهما من حقوقها التي كانت مطمورة ومسلوبة طيلة عقود.
قد نختلف مع بورقيبة أو نتفق معه على مسائل عدة لا تزال تونس تعاني من تبعاتها لكننا نُجمع على أن الرجل كان يحمل مشروعا كبيرا للدولة التي حلم بها وتصورها وحارب عنها وذاق الويلات كي لا تكون لقمة سائغة بين أيدي أعدائها سواء في الداخل أو الخارج.
اجتهد بورقيبة في البناء والإصلاح فكان له ما أراد إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة التي تولى فيها زين العابدين بن علي رئاسة البلاد في 7 نوفمبر 1987 وكانت حاسمة فعلا لأن العديد من الدلائل والبراهين والشهادات كانت تجمع على أن البلاد كانت ستدخل منعطفا خطيرا لولا فطنة بن علي الذي كان رجل أمن وشغل العديد من المناصب أهلته لتولي مهمة الإنقاذ.
تولى بن علي رئاسة البلاد وباشر مهمته خلفا لبورقيبة وكان له شرف أن ربطت تونس في فترة حكمه علاقات متينة سواء مع جيرانها في الشرق أو الغرب أو في أفريقيا والأهم من ذلك مع أوروبا.
أما داخليا فكان الرهان الأكبر لبن علي على القطاعات التي يعتبرها حيوية وداعمة للاقتصاد الوطني، فكان تركيز الدولة منصبا على ربط المجال وتهيئته وإقامة المشاريع الكبرى وخصوصا المنشآت الحيوية. بخلاف بورقيبة كرّس بن علي رؤية ضيقة لقطاع التعليم ولم يوله الاهتمام الذي يستحق فأدخل أنظمة هجينة أسهمت في تراجعه وأفقدته القيمة التي كان يحظى بها لعقود مضت.
عاشت تونس طيلة فترة حكم بن علي دولة متوازنة، مستقرة، حافظة لكرامة التونسيين وعيشهم الكريم مثلما تردده ألسنتهم، تعكس صورة النظام الذي ضرب بعصا من حديد ليبسط سيطرته ويفرض هيبة الدولة.
ربما لم تكن الصورة وردية إلى أبعد الحدود، ولأن كل نظام له مساوئه أيضا فقد مثل النفس الضاغط على التونسيين في الفترات الأخيرة لحكم بن علي وتزايد منسوب الفساد وتدخلت أطراف عديدة في تسيير أمور الدولة. كل هذه العوامل أدت إلى بروز نفس ثوري عززه انفتاح البلاد على العالم الغربي وما أنتجه من ثورة اتصالية أسهمت في زعزعة أركان النظام وتآكله من الداخل ليسقط في أول شرارة كان محمد البوعزيزي أول من تسبب بها يوم 17 ديسمبر 2010.
دخلت البلاد منعطفا خطيرا أسهم في خروج بن علي يوم 14 يناير 2011، ليسجل الإسلاميون حضورهم بكثافة العدد وانعدام المنهج والعدة. بارك الإسلاميون السقوط المدوي لبن علي “الطاغية” و”الدكتاتور” وأنواع شتى من المسميّات التي وصف بها الرجل، ليجهزوا على تركة البلاد التي يؤكد مراقبون أن ميزانيتها بعد خروج بن علي كانت أكثر من مستقرة وما سجله الاقتصاد التونسي خلال نهاية 2010 وبداية 2011 من نسبة نمو تفوق التوقعات.
ما حصل بعد تولي الإسلاميين الحكم أو الحكومات التي شاركوا فيها أو كانوا ممثلين بها من 2011 إلى حدود 25 يوليو 2021 تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيد حل البرلمان وتوليه السلطة، هو إفلاس الدولة ودخولها فترة اضطراب كبيرة وفساد لم تتوقف ماكينته أتى على الأخضر واليابس.
وضعية الرئيس سعيد اليوم تكاد تكون شبيهة ومماثلة لوضعيتي رئيسي تونس الأسبقين، الحبيب بورقيبة عندما تولى رئاسة تونس في فترة مضطربة وحالة فاقة لا توصف وخروج مستعمر لم يترك في البلاد شيئا، لكنه راهن على خبرته وتجربته كمحام ورجل قانون وأعطى التعليم حقه بأن كانت النتيجة مشرفة، مثله اليوم يرى الرئيس سعيد من تلك الزاوية ويؤكد على المضي والسير فيها دون تردد ولا رجوع كونه يستأنس بتجارب سارت على هذا الدرب وحققت نقلة نوعية لتعانق القمة.
كما تلتقي تجربة قيس سعيد مع بن علي كونه أعاد “الدولة المغتصبة” وأراد لتونس أن تكون، بأن وضع حدا للعبث بها وبأجهزتها وأعاد الانطلاق من مربع الصفر. رهان قيس سعيد يجب أن يتواصل كونه مبنيا على مشروع هو الأساس لقيام الدول وبنائها على أسس صلبة ومتينة.
النتيجة واحدة وكلام الأولين دائما هو المحرار “تونس برجالها” وهم الذين يتمسكون بإرثها وترابها وتقاليدها وعمقها الذي لا يجب أن يطمس. هذه تونس التي يجب أن تكون.