تهديد فرنسا أم تأديب «ماكرون»؟
الفرنسيون لديهم قناعة تامة بأن أي عمل تخريبي، ستكون روسيا ضالعة فيه، ويرجع ذلك بسبب الدعم الفرنسي لأوكرانيا ضد موسكو.
انطلقت أولمبياد باريس، ذلك الحدث الرياضي الأهم، الذي ينتظره الملايين حول العالم، وسط أجواء أمنية غير مستقرة، في فرنسا، قد تهدد المشجعين والفرق المشاركة، ويبرهن الهجوم التخريبي الضخم على خطوط السكك الحديدية المؤدية إلى باريس، حجم التهديد الأمني، الذي يتطلب إجراءات غير مسبوقة، قد تعجز فرنسا عن القيام بها خلال فعليات الحدث.
التهديدات الأمنية في فرنسا، لم تكن وليدة اللحظة، فالمشهد السياسي المتأزم في أوروبا والشرق الأوسط، بالتأكيد له إنعكاسات على الحالة الأمنية، وظهر ذلك خلال الحدث الرياضي الكبير.
أثيرت الشكوك حول ضلوع روسيا فيما يجري في فرنسا، خاصة مع تنامي رغبة فلاديمير بوتين للحصول على فرصة لإذلال إيمانويل ماكرون، بعد موقف فرنسا العدائي تجاه روسيا.
ومع النظريات الواردة من جهات متعددة وقليل من الأدلة القوية أو عدم وجود أدلة دامغة، ظل من غير الواضح من هم الجناة بالتحديد في الهجوم على السكك الحديدية.
ورغم قيام السلطات الفرنسية، بوضع نظامًا أمنيًا كبيرًا عالي التقنية للدفاع عن الألعاب الأولمبية، مع طائرات بدون طيار من طراز ريبر في السماء وكاميرات تعمل بالذكاء الاصطناعي على الأرض لمراقبة أي نشاط مشبوه، لكن الهجوم الإرهابي يشير إلى أنهم أولوا اهتمامًا أقل بكثير لطرق السكك الحديدية الرئيسية، التي تم تخريبها بأساليب الحرق العمد القديمة بدلاً من الهجمات الإلكترونية.
كان لدى الجناة معرفة عملية جيدة بالسكك الحديدية وكانوا على الأرجح يسعون إلى إحداث أقصى قدر من الاضطراب مع تجنب أي خسارة في الأرواح البشرية، وكانت النتيجة أن نحو 50% من القطارات في شمال وشرق فرنسا توقفت عن العمل، في حين أصيبت شبكة TVG عالية السرعة بالشلل أيضًا. ومن المتوقع أن يستمر الاضطراب طوال عطلة نهاية الأسبوع.
ولم تتهم فرنسا بعد أي جماعة أو دولة بالضلوع في هذا العمل التخريب، لكن الكثيرين سيوجهون أصابع الاتهام على الفور إلى موسكو. ومن بين المشتبه بهم المحتملين الآخرين الجماعات الإرهابية أو المتطرفين اليساريين.
ويعكس تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون، عندما قال إنه ليس لديه أي شك على الإطلاق، في أن القادة الروس كانوا يخططون لتعطيل الألعاب الأولمبية أو الإضرار بها. ولكن التحريات الأمنية الفرنسية لم تكتشف أي دليل دامغ، لتحديد ما إذا كان تخريب السكك الحديدية نتيجة هجوم هجين روسي.
الفرنسيون لديهم قناعة تامة بأن أي عمل تخريبي، ستكون روسيا ضالعة فيه، ويرجع ذلك بسبب الدعم الفرنسي لأوكرانيا ضد موسكو، ومع ذلك هناك من يتهم اليسار المتطرف فيما يحدث في فرنسا، لتكرار الهجمات بنفس الطريقة التي استخدمها اليسار المتطرف في الماضي.
واقحمت إسرائيل نفسها في الأمر، واتهمت إيران عدوتها اللدودة في الشرق الأوسط، والتي تواصل تمويل ودعم حماس، وكذلك جماعة حزب الله اللبنانية بأنها وراء الأعمال التخريبية في فرنسا، وادعت إسرائيل أن لديها معلومات بأن إيران تخطط لشن هجمات إرهابية ضد الوفد الإسرائيلي وجميع المشاركين في الأولمبياد. وتلك هي إسرائيل التي دائمًا تروج الأكاذيب، وتحاول إلهاء الرأي العام العالمي عن جرائمها تجاه الفلسطينيين في غزة.
أقرا أيضا| عشاء باريس… الفضائح والنصائح
ومن الواضح أن الدعم الدبلوماسي والعسكري الذي تقدمه فرنسا لأوكرانيا، سببًا في وضعها في مرمى حملة روسية جديدة ضد أوروبا تُعرف باسم «الحرب الهجينة»، والتي تنطوي على التخريب والحرق العمد والهجمات السيبرانية، وغير ذلك من المحاولات لزعزعة استقرار الديمقراطية الغربية. وهناك بالفعل سابقة عندما شنت روسيا هجمات حرق متعمد على الشركات والبنية التحتية في أوروبا.
ومن قراءة المشهد، لم يكن الهجوم وليد الصدفة، بل هو مخطط لمحاولة زعزعة استقرار فرنسا أثناء فعاليات دورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية، وبالتأكيد الهدف من ذلك توجيه ضربة للاقتصاد الفرنسي، الذي تكبد ميزانية هائلة لتنظيم الحدث الرياضي الأضخم في العالم.
أيضا هناك جانب سياسي بحت في الهجمات التخريبية على فرنسا، وهو توجيه ضربة لماكرون بشكل شخصي، تفقده ثقة الشعب الفرنسي وتضعف موقفه السياسي، خصوصًا في ظل قرب حل الحكومة الفرنسية، وتشكيل حكومة أخرى.
ولكن الأحداث الجارية دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بتأجيل تشكيل حكومة جديدة حتى انتهاء أولمبياد باريس. ورفض محاولة من قبل ائتلاف يساري لتقديم موظفة حكومية غير معروفة، لوسي كاستيتس، كمرشحة لرئاسة الوزراء.
وتكبد تحالف ماكرون الوسطي خسائر فادحة في الانتخابات، لكنه طلب من رئيس الوزراء غابرييل أتال ووزرائه البقاء في شكل حكومة تصريف أعمال حتى يتم تعيين بدلاء. ولا يتمتع أي حزب الآن بأغلبية، لكن حزب الجبهة الوطنية المكون من أربعة أحزاب يسيطر على 182 مقعدًا على الأقل من أصل 577، مما يجعله في أقوى موقف لاقتراح مرشح، متقدمًا على حزب ماكرون وحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف.
ومن المؤكد أن الحرب الإسرائيلية على غزة، وما تبعها من ردود فعل عنيفة في بعض الدول، أدت إلى مخاوف شديدة بشأن سلامة الوفد الإسرائيلي المشارك في أولمبياد باريس، وتتواصل جرائم الأمن العام في أكثر مناطق العاصمة حساسية وفي قلب المناطق السياحية، الأمر الذي يضاعف الضغوط على الحكومة الفرنسية.
ولا يخفى على أحد أن ما يحدث في فرنسا هو إنعكاس طبيعي لحالة الاضطراب السياسي، وموقف فرنسا تجاه ما يحدث في غزة، وتأييدها لموقف إسرائيل بأنها تدافع عن نفسها، له تداعيات واضحة على ما يحدث الآن في فرنسا، فقد تكون الهجمات من جانب أطراف معادية لإسرائيل. أيضا لن يختفي الموالين لروسيا عن المشهد، لذلك ستجد فرنسا صعوبة شديدة في السيطرة على مجريات الأمور.
وقد تشهد فرنسا، عملًا إرهابيًا قويًا، خلال فعاليات الأولمبياد، التي يشهدها الملايين من جميع جنسيات العالم في فرنسا، الأمر الذي قد ينهي مستقبل ماكرون سياسيًا، وسيؤدي إلى خسائر اقتصادية فادحة، في الوقت الذي تأمل فيه فرنسا، لتحقيق مكاسب تعزز موقفها الاقتصادي، لمواجهة الأزمات الداخلية التي تلاحقها.
تعليق واحد